مواجهة حركة التتريك في أواخر عصر السلطنة
العام سنة 1909، من الأعوام المهمة، فهو يمثل نهاية حكم السلطان عبد الحميد في اسطنبول، وذلك بعد أن أطاح به الاتحاديون، إثر ذلك، برز بشكل واضح النشاط الذي كان يقوم به أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، والذين كانوا ينادون بالمساواة القومية، ويطالبون بالإصلاح الاجتماعي في الدولة العثمانية، وهذه الشعارات جعلت من الجمعية حركة مقبولة لدى المتنورين العرب، الذين سارعوا للانخراط فيها.
فعل ذلك عدد مهم من وجهاء وزعماء المنطقة الجنوبية، حتى ان كامل الأسعد، الذي لم يكن مقتنعاً بالانتساب لهذه الجمعية، وكان في ذلك الوقت عضواً في حزب الحرية والائتلاف، وكان يرفض الانتساب، استجاب لرغبة بعض من زاره في الطيبة، وأقنعه بوجوب التعاون مع الجمعية.
وعندما تقررت انتخابات مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني)، جرت اتصالات عديدة في المنطقة، تقرر بنتيجتها تأييد ترشيح وانتخاب كامل الأسعد، لكن الأسر العاملية، ذات النفوذ انقسمت إلى قسمين: قسم يحالف رضا الصلح، وآخر يحالف كامل الأسعد، ولم يفت ذلك قنصل فرنسا في بيروت، فكتب سنة 1912 قائلاً: «تتمتع هذه الشخصية في كل منطقة بلاد بشارة، التي تمتد من صيدا إلى مرجعيون، إلى حيفا، وأغلب سكانها من المتاولة، بسلطة غير منازعة، فسلطته مطلقة على نحو عشرين ألف نسمة، ويحكم البلاد، ويشيع الأمن، أو يثير الاضطرابات، على هواه، ويشمل بحمايته كل من يقيم في مقاطعته»
في تلك الفترة، برزت تحركات عبد الكريم الخليل،الذي كان ينشط لإيصال أفكاره وآرائه إلى الوطنيين، وهذه التحركات إنكشفت للسلطة العثمانية، وظهرت بشكل جلي أهداف جمعية الاتحاد والترقي، في محاولة تتريك العرب، وأعظائهم الهوية التركية، وإحلال اللغة التركية فكان اللغة العربية، وبرزت ردّة فعل العامليين، بالانسحاب من الجمعية، وانتسب بعضهم إلى حزب اللامركزية العثماني.
كانت ردّة الفعل التركية حيال تحركات الوطنيين، قاسية جداً، حيث تمّ إعدام عدد منهم، وفي مقدمتهم عبد الكريم الخليل.
2 ــ المنطقة بين قرار الانتداب
وتأييده للحكومة العربية
نشبت الحرب الأولى، وأسفرت عن انتصار الحلفاء على الأتراك، بدخول القوات العربية إلى دمشق، وذلك في 30 أيلول سنة 1918، وأعلنت الحكومة العربية، بقيادة الأمير فيصل، ابن الشريف حسين «في قلب عاصمة العرب التاريخية» .
تحمس العامليون للحكومة العربية، وعبّر عن ذلك الزعماء والمتنورون، من مشايخوأدباء وشعراء،وقال العامليون:
بفيصل سيّد العرب بلغنا غاية الإرب
بلغنا الغاية القصوى مع استقلالنا العربي
إن إعلان الحكومة العربية، وحماس العامليين لها لم يعجب الفرنسيين، الذي راحوا يمارسون الضغوطات على الزعماء والمتنفذين، لثنيهم عن تأييدهم لحكومة فيصل، وحاولت السلطة الفرنسية جاهدة الاستحصال على عريضة من المنطقة، لتأييد الانضمام إلى الكيان اللبناني، واستطاعت السلطة تحقيق هذه الرغبة، من خلال التأثير على بعض المخاتير» في بعض القرى، فيما لم تستطع القيام بذلك في أماكن أخرى، حيث عبّر عن ذلك الموقف المتخذ في العشرين من آذار سنة 1920، عندما أقدمت السلطة الفرنسية على استخدام قواتها العسكرية، لإحضار بعض أعيان جبل عامل إلى جسر الخردلي، لإعلان تأييدهم لسياسة السلطة، فكان جواب كامل الأسعد: «ان العامليين يرفضون هذا الطلب، ولا سيما الاعتراض والاحتجاج على ما قرره المؤتمر السوري، من تنصيب الملك فيصل ملكاً على سورية، لأنه هاشمي، وذلك من أخص أمنيات الشيعة» .
رداً على هذه المواقف، ازدادت الضغوطات الفرنسية، ويقول الأمير شكيب ارسلان في هذا الخصوص: «أخذ الفرنسيون في الانتقام من إخواننا الشيعة في جبل عامل، لنزعتهم العربية، وتأييدهم حكومتها في الشام» .
3 ــ العامليون في مواجهة الانتداب
أعلن قرار الانتداب في 31 آب سنة 1920، هذا الإعلان قضى على آمال الوطنيين، مع العلم أن الضم لم يكن في تلك الفترة إلا شكلياً ونظرياً وإدارياً، ذلك ان المناطق ظلت مرتبطة اقتصادياً بأسواقها الطبيعية، في حيفا والناصرة والصفصاف والخالصة، وكل منطقة حوران، وخاصة القنيطرة وجوارها، والشام.
اعتبر الوطنيون، أن القضية تحتم الإبقاء على العلاقات مع سوريا، وعليهم النضال ضد الفرنسيين للوصول إلى الهدف المرجو، المتمثل بالإنضمام إلى سوريا، وكان هناك رد صريح على مسألة التوحيد القسري التي حصلت، والتي ضُمت على أثرها الأقضية الأربعة إلى دولة لبنان الكبير، على غير رضى عن الأهالي، وتمثّل الرد بنشوء العصابات الوطنية المسلحة ، والتي عملت في المنطقة ضد الفرنسيين ومؤيديهم.
وبعد أن «ابتلع جبل لبنان جبل عامل» ، فإن هذا الأخير لم يندمج في الكيان اللبناني الجديد، لكن بالرغم من ذلك، فإن الفرنسيين استطاعوا استمالة بعض الزعماء «وخصوهم بالدعم، في مقابل الإخلاص لهم» ، وكتب الجنرال غورو قائلاً: «علينا أن نحتفظ ببعض الزعماء المختارين، من بين الذين لم يتورطوا، وان نزيد من سلطتهم» . تفاقم الوضع الأمني في المنطقة، وحتى لا تتطور الأمور نحو الأسوأ، تداعى كبار زعماء وعلماء المنطقة لعقد مؤتمر الحجير في 24 نيسان سنة 1920.
إضافة إلى الأوضاع الأمنية التي استدعت عقد المؤتمر،كانت هناك أسباب أخرى، منها ضرورة رسم علاقة واضحة مع الحكومة العربية، السيد عبد الحسين شرف الدين وأعتبر ان هناك دعوة وصلت لكامل الأسعد من زعماء عشائر الفضل، التي تسكن المنطقة الشرقية، وقد «حمل هؤلاء له رسائل الثورة، ويدعونه إلى خوض المعركة» .
المهم ان المؤتمر انفض عن بعض القرارات، التي تتعلق بالموقف من إعلان الحكومة العربية، وتتويج الملك فيصل، وانضمام جبل عامل إلى هذه الدولة، وإرسال وفد إلى الشام للتفاوض مع الملك، وتم انتخاب السيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد عبد الحسين نور الدين، للذهاب إلى دمشق، ومقابلة الملك، مع السيد محسن الأمين، الذي كان موجوداً هناك.
كانت هناك تعبئة فرنسية لتأجيج الصراع الطائفي في المنطقة، ولعبت الصحف الفرنسية دوراً في تأليب فئة من اللبنانيين على فئة أخرى، فاشتعلت الفتنة التي كانت تريدها فرنسا، ليسقط أبرياء، وتأخذ فرنسا ذلك حجة لدخول المنطقة واحتلالها، وتنفيذ ما تبقى من اتفاقية سايكس بيكو، والانطلاق من هناك إلى سوريا، وكانت قمة نتائج الفتنة أحداث 5 أيار سنة 1920 المؤسفة.
رداً على ما حصل في المنطقة، جنّدت السلطة الفرنسية حملة من أربعة آلاف جندي، بقيادة الجنرال نيجر، لقمع «ثورة جبل عامل» .، عاثت فساداً وخراباً ونهباً وحرقاً لأكثر البلدات والقرى العاملية، وقد فرضت ضريبة كبيرة على هذه البلدات، وكان من الصعوبة بمكان تحملها، والأهالي كانوا مجبرين على جمعها.
يقول السيد حسن الأمين: «ان العصابات الوطنية التي قادها صادق الحمزة وأدهم خنجر، ومحمود الأحمد بزي، في جبل عامل، لقتال الفرنسيين، كانت التعبير العملي للثورة العاملية على الفرنسيين، تلك الثورة التي ما اتسمت بالفوضوية، إلا لكونها لم تجد زعيماً يضبطها، ولا مفكراً يتبناها ويقودها، ولا جهازاً ينظمها ويوجهها» .
إن احتلال جبل عامل، كان مقدمة لاحتلال دمشق، بعد الإنذار الذي وجهه غورو، والذي انتهى باستشهاد وزير الدفاع السوري، مع مجموعة الضباط والجنود، في ميسلون، حيث كانوا يحاولون عبثاً الدفاع عن دمشق.
من تداعيات أحداث جبل عامل سنة 1920، لجوء أدهم خنجر إلى ديار سلطان باشا الأطرش في جبل العرب، في 17 تموز سنة 1922، وبعملية معينة استطاع الفرنسيون اعتقاله، ثم إعدامه، وكان ذلك مقدمة لإعلان الثورة السورية الكبرى، التي بقيت حتى سنة 1925 وسنة 1927…» ، هذه الثورة التي «لعب فيها المجاهدون الشيعة في جنوب لبنان دوراً بطولياً رائعاً» .
4 ــ مواجهة الشركات الاحتكارية ودعم القضايا القومية
بعكس التقارير التي كانت ترسلها السلطة الفرنسية في لبنان، عبر بعض ضباطها، والتي كانت تتحدث عن أن الشيعة في جبل عامل، لن يقاوموا دولة لبنان أو سلطة الانتداب، وان جماعة الشيعة كانوا يتصرفون بولاء منذ سنة 1920، وان تعلقهم بالانتداب كان شديداً، وانه لا خطر من تحولهم إلى جماعة الوحدويين، وانهم يستحقون حسن التفاتتنا إليهم» ، فإن الواقع كان يثبت ان العامليين لم يستكينوا، ولم يهدأ لهم بال، وكل الوثائق تثبت ان كل فترة الثلاثينات مثلاً، كانت فترة منازعات ومشاكل بين السلطة الفرنسية من جهة وأهالي جبل عامل من جهة أخرى، ويبدو أن كبار موظفي الانتداب، لم يكونوا يقيمون وزناً للتقارير التي ترسل من المنطقة، كما ان الانتداب لم يكن يعير مسألة التنمية الاقتصادية، والاجتماعية في المناطق الريفية، وخاصة في جبل عامل، أيَّ اهتمام، والدليل على ذلك، انه حتى الثلاثينات، كانت نسبة الأمية في المنطقة أكثر من 82 بالمئة، مع عدم وجود مدارس في المنطقة، إلا فيما ندر، أي في القصبات الكبرى فقط.
وتؤكد مصادر عديدة أخرى، حتى فرنسية، ان الدلائل تشير إلى أن الشيعة في جبل عامل، لم يكونوا راضين مرة عن ممارسة السلطة المنتدبة، وبقي الحنين يراود أفكارهم باتجاه سوريا، ومن هذا المنطلق نفهم المبادرة التي قام بها السيد محسن الأمين، والشيخ سليمان ظاهر، والشيخ أحمد رضا، سنة 1931، في تنظيم إحياء ذكرى الأربعين للشريف حسين في النبطية ، كما جرت احتفالات في فترة لاحقة، في ذكرى أربعين فيصل، في بنت جبيل وصيدا، بدلاً من النبطية، وذلك في تشرين الأول سنة 1933» .
إن فترة الثلاثينات، كانت فترة الانتفاضات، التي حصلت ضد السلطة المنتدبة، وكانت بداياتها سنة 1934، في هذه السنة حصلت انتخابات نيابية، وتدخلت السلطة الفرنسية لمصلحة مرشحين معينين، ضد مرشحين آخرين وطنيين، ولعب المستشار الفرنسي آنذاك المدعو بتشكوف دوراً أساسياً في توجيه الانتخابات بالاتجاه الذي تريده السلطة الفرنسية.
ثم كان لجبل عامل موقف من مؤتمر الساحل، الذي عقد في بيروت، في العاشر من شهر آذار سنة 1936، حيث ان قيادات وطنية عديدة لم تحضره، و«أرسلت برقيات تأييد للكتلة الوطنية في سوريا، تعبّر فيها عن عدم قبولها بأي مطلب بديل عن الوحدة السورية، وتطالب باستفتاء حرّ وعام، لأن هذا الاستفتاء سيثبت أحقية مطالبهم» .
قمة النضال العاملي كان في نيسان سنة 1936، فلم يأت هذا التاريخ، الا وكانت الأمور ناضجة لاندلاع انتفاضة، كانت شرارتها الأولى برقيات وعرائض ضد شركة الريجي الاحتكارية، التي احتكرت زراعة التبغ وتجارته وتصنيفه، وضيّقت على المزارعين، وعلى لقمة عيشهم الأساسية في المنطقة، هذه البرقيات والعرائض كانت بمضمونها، دعوة سياسية لتحقيق هدف سياسي معين.
فمع الاحتجاج ضد شركة الريجي، كان هناك نضال ضد الانتداب الفرنسي وممارساته، وكذلك عمل حثيث من قبل متنوري المنطقة، لتحقيق وتنفيذ شعار الوحدة السورية ، الذي كان يطلقه الوطنيون منذ فترة طويلة، في مواجهة شعار الكيان اللبناني، الذي كان يؤمن به، ويعمل من أجله فريق آخر من اللبنانيين.
إن كل ذلك، كان يقلق السلطة الفرنسية، ويزعجها، ويجعلها تقف بقوة في وجه هذا التيار، الذي كان يقوى باضطراد، ويعبّر عن نفسه بشتى الاشكال، كما ان السلطة الفرنسية كانت تحاول استمالة فئات، بعضها عاملي، من أجل إيجاد شرخ في المجتمع، بحيث يبرز وكأنه منقسم على نفسه، وان هناك فريقاً لا يستهان به، لا يرضى بالوحدة السورية، وهو يريد الانضمام إلى الدولة اللبنانية، بكيانها المدعوم من الفرنسيين.
المهم ان العرائض والبرقيات (الزراعية في شكلها، السياسية في مضمونها وأهدافها)، وصلت إلى أيدي السلطة، فاعتقلت الوطنيين من المنطقة، وزجّت بهم في السجن، مما أوجد حاله من الغضب الشديد، وفي أول نيسان، وكان يوم إقامة ذكرى عاشوراء، انتفضت بنت جبيب ضد السلطة الفرنسية، والأمن في البلدة، وحدث إطلاق نار عند السرايا. وتطورت الأمور، عندما حضرت وفود من البلدات المجاورة وخاصة من عيناثا وغيرها، وحاول الأهالي فتح السجن بالقوة لإطلاق سراح المعتقلين، ولما لم يستطيعوا، حاولوا نقب أحد حيطان السجن، لكن المساجين أنفسهم رفضوا الخروج، وبرروا ذلك فيما بعد، بأنهم لو هربوا من السجن لأطلق رجال الدرك النار عليهم، بحجة الهروب، وليس بحجة الانتفاضة الوطنية. المهم أطلقت النيران فاستشهد على الفور ثلاثة وهم: مصطفى العشي من بنت جبيل، عقيل الدعبول ومحمد الجمال من بلدة عيناثا المجاورة، (والتي كانت شريكة فعلاً في درب الانتفاضات الوطنية)، كما سقط كل من موسى الحوراني وأحمد الحاج أحمد بيضون مصابين بجراح» .
اعتبرت الصحف اللبنانية، ومنها جريدة النهار، ان «انتفاضة بنت جبيل، هي انتفاضة وحدوية مع سوريا، وأن الشهداء الذين سقطوا في بنت جبيل شهداء الوحدة السورية» .
كانت ردة الفعل في المنطقة كبيرة وعنيفة، حيث حصلت الاضطرابات والمظاهرات، والتي استمرت لفترة طويلة، كما ان أصداء الانتفاضة وصلت إلى كل المدن اللبنانية، خاصة صور وصيدا والنبطية وبيروت وطرابلس، وأيضاً إلى سوريا، حيث كان للكتلة الوطنية هناك موقف واضح، مؤيد للانتفاضة في وجه الفرنسيين.
كان للسلطة الفرنسية، وكذلك للسلطة الإدارية، وجهة نظر من الانتفاضة، ففي تقرير لقائمقام صور إلى محافظ الجنوب، في 17 حزيران سنة 1936، تصوير للواقع السياسي، وأن الحادث الذي جرى أوجد واقعاً، انقساماً صعباً جداً، بقيت مفاعيله منذ ذلك الوقت، وحتى فترة متأخرة، ويمكن القول، ان مفاعيله استمرت، إنما بأشكال مختلفة.
لقد ورد في التقرير ما يلي: «تعلمون انه على أثر حوادث الشام الأولى، كيف ان الروح الثورية السائدة هناك، قد انتقلت أكثر من سواها في لبنان، وكان من نتيجته ذلك الحوادث التي حصلت في بنت جبيل، والتي كان من ماضيها ما يؤيد اندفاعها في سبيل الانقضاض على النظام والقوانين، وإحداث الثورات وسفك الدماء، وكيف أن فريقاً من شبيبة هذه البلدة أرسل البرقيات إلى المراجع ذات الاختصاص، في سبيل تأييد خطاب الوطنيين في الشام، والانضمام إلى الوحدة السورية» .
حاولت السلطة الفرنسية العمل على تطويق الوطنيين المتنورين، قادة الانتفاضة عبر التضييق على الثوار الفلسطينيين، الذين كانوا يأخذون من المنطقة منطلقاً لهم باتجاه فلسطين، وكانت السلطة الفرنسية تغض الطرف عن تحركاتهم، نظراً للصراع الخفي الذي كان موجوداً في تلك الفترة بين الانتدابين الفرنسي والانكليزي، فكما كان الانكليز يغضون الطرف عن الثوار الذين كانوا يقاتلون الفرنسيين اثر الانتداب سنة 1920، ردّ الفرنسيون الكيل للانكليز إبان أحداث سنة 1936.
إنّه لأمرٌ مهم هنا، أن نشير إلى الدور الكبير الذي لعبه بعض رجال الدين في تلك الفترة، خاصة من الذين كانوا في النجف الأشرف، ويحضرون إلى جبل عامل في زيارات متعددة، كالشيخ محسن شرارة الذي كان رائداً من رواد الانتفاضة ضد الاستعمار، والذي كان مدعوماً من القيادات التاريخية للحركة الوطنية العاملية، خاصة السيد محسن الأمين، وكان ينسق مع مشايخ النبطية وصيدا، الثلاثي الوطني، أحمد عارف الزين، الشيخ سليمان ظاهر والشيخ أحمد رضا.
كذلك لا بدّ من ذكر الأثر الذي تركه بعض الشباب الذي كانوا يدرسون في الجامعة السورية، أو انهم تخرجوا منها أطباء، وفي مقدمة هؤلاء أنيس إيراني، الذي كان أحد أهم قادة الثورة وخطبائها. وتذكر صابرينا ميرفان في هذا الشأن: «كان البعض منهم من بنت جبيل، فأحدثوا في سنة 1936 عصياناً، بعد أن قلبوا النظام القائم على النخب التقليدية من الوجهاء والعلماء، وقد كان العلماء العامليون، ما خلا بعض الاستثناءات، قد تخلوا عن أملهم بالعروبة، وانخرطوا باللبننة، وأيدوا الانتداب الفرنسي»، وتضيف قائلة: «وبقي الوطنيون العامليون على وفائهم للوحدة السورية، وكانوا قد قاوموا إلى ذلك الحين مغريات اللبننة، ولقد قامت إضافة إلى ذلك، حركة تمرد حقيقية، نظمتها «الشبيبة» في ربيع 1936، وكان ذلك أول حدث لا يتداول فيه، لا الوجهاء ولا العلماء،لتحديد موقف يعتمدونه، بل أبناء الوجهاء وأبناء العلماء، هم الذين استنفروا فيه الناس لحضّهم على القيام بالحركة» .
5 ــ العامليون والقضية الفلسطينية
مقاومة مبكرة
بقيت منطقة جبل عامل في ميدان المعركة مع السلطة الفرنسية، إلى ان جرت الانتخابات التشريعية الفرنسية سنة 1936، وأسفرت عن فوز تحالف الاشتراكيين والشيوعيين، الذين كانت لهم مواقف غير معارضة لشعار الوحدة السورية، عندما كانوا خارج الحكم، واستبشر السوريون واللبنانيون خيراً منهم، واستؤنفت المفاوضات السورية الفرنسية، وكانت مسألة جبل عامل من الأمور المطروحة للنقاش على طاولة المفاوضات، لكن يلاحظ انه في الوقت الذي بقي فيه بعض الوطنيين في المنطقة يرسلون البرقيات، ويعبّرون من خلالها عن آمالهم الوطنية الواضحة ،فإن هذه الآمال بدأت تخبو عند الآخرين، حيث «انحسرت الدعوة للوحدة السورية بين أوساط الزعامة الإسلامية في بيروت، الذين راحوا يفتشون عن مخرج يضمن إجماع إسلامي، للتعايش مع النظام الطائفي في لبنان» .
بالمقابل، فإن العامليين الذين بقوا يخوضون الصراع من أجل تحقيق أهدافهم الوطنية، برزت أمامهم قضية قومية، وجدوها أهم وأكثر أولوية من كل القضايا التي يناضلون من أجلها، هذه القضية تمثلت بالمسألة الفلسطينية، التي كانت تتأثر سلباً بالسياسة الامبريالية البريطانية، والممارسة الصهيونية المعادية للشعب العربي الفلسطيني» ، فكانت انتفاضة عز الدين القسّام في فلسطين سنة 1936.
لقد أخذت الحركة الفلسطينية تنمو في الداخل، على طريق تصعيد النضال ضد القوات البريطانية المسلحة في المدن والأرياف، وكانت هذه الثورة «من صنع الفئات الشعبية الناقمة على الاستعمار الانكليزي» .
ما يهمنا هنا، هو احتضان جبل عامل لهذه الثورة، فقد كان للبلدات العاملية، خاصة، تلك المتاخمة للأراضي الفلسطينية، الدور البارز في دعم الانتفاضة الفلسطينية، وأجّل الوطنيون نضالهم الوطني، وقدموا عليه الواجب القومي، فساعدوا بالمال والسلاح والتموين، وإدخال العناصر المقاتلة إلى قلب فلسطين.
وشارك بعض وطنيي المنطقة بالهيئة العربية العليا، ويعترف أبناء فلسطين وكتّابهم، بفضل العامليين، وتقديمهم الغالي والنفيس في سبيل القضية الفلسطينية.
وكان وطنيو المنطقة يحضرون كل اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات، التي كانت تعقد في تلك الفترة، من أجل القضية المقدسة، وهكذا كان الأمر عندما عقد مؤتمر بلودان في سوريا في أيلول سنة 1937، الذي «اتخذ قرارات تتعلق بالإعلان ان فلسطين بلاد عربية، وان واجب العرب إنقاذ هذا القطر من الخطر، والتعهد من قبل العرب في فلسطين، بأن يعامل اليهود كما تعامل الأقليات في جميع البلاد العربية، التي تطبق مبادئ عصبة الأمم، واستنكار فكرة تقسيم فلسطين» .
توقفت اللقاءات بسبب الحرب العالمية الثانية سنة 1939، وبعدها، إلى أن بدأت ملامح جديدة،تظهر على أرض فلسطين، بأن هناك نوايا واضحة، وعملية، بريطانية ـ صهيونية،لاحتلال فلسطين كاملاً، وتشريد الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي كان فيه العلماء العامليون والوطنيون يحذّرون من مسألة بيع الأراضي لليهود.
وكان استقلال لبنان في 22 ت2 سنة 1943، وكانت معركة، خاضها الوطنيون، وكان للعامليين دور فيها، وعبّروا عن ذلك بالمظاهرات والإضرابات والاحتجاجات، ثم بالمهرجانات الخطابية والبرقيات والاحتفالات.
كل هذه الأوضاع لم تلهِ الوطنيين في المنطقة عن مسألة فلسطين، لأن خطرها كان ماثلاً أمام الجميع، وساهم بعض هؤلاء في أعمال مكتب فلسطين الدائم، وكانت مهمة هذا المكتب توفير الأسلحة، وحشد المتطوعين وتجهيزهم، للالتحاق بالثورة، والالتحام بها، وفي بنت جبيل ـ كما يقول عامر حسن وهاني الهندي ـ «أسس مستودع عام لتموين القطعات بالأرزاق الجافة» .
وبعد إنشاء مكتب فلسطين الدائم سنة 1947، عمد هذا المكتب إلى إنشاء لجان مختلفة، «كلجنة الطوارئ، التي كانت مهمتها توفير الأسلحة، وحشد المتطوعين وتجهيزهم، حيث أخذ معروف سعد وعلي بزي وشفيق الأرناؤوط، يطوفون في قرى الجنوب، داعين شبابها إلى الالتحاق بالثورة والالتحام بها، وكان الوفد يلقى من السكان حماسة بالغة، وهتافات بحياة الثورة ومعروف» .
هذا وعندما تمّ تأسيس جيش الإنقاذ، بقرار صادر عن اللجنة العسكرية العربية في ت1 سنة 1947.
كانت بلدات المنطقة، خاصة بنت جبيل وعيثرون ومارون الراس وغيرها، مراكزاً له، وأسس في بنت جبيل مستشفى، كان يداوم فيه الدكتور محمد جميل بزي، وهو أول طبيب متخرج من الجامعة السورية آنذاك، يساعده الأطباء أحمد السّواج، فيصل الكربي، أنيس إيراني، عبد الغني عرفة، وهاشم الأتاسي.
وقبل أن تبدأ المعارك الأساسية، سقط أول شهيد من المنطقة في محلة الغيزي في حيفا، على يد العصابات الصهيونية، وهو الشهيد قاسم أبو طعام، وذلك في كانون الثاني سنة 1948.
وبدأت العمليات العسكرية في المنطقة، وشكّل عدد من الشباب المتحمسين خط دفاع ثان، وراء الجيش اللبناني، مباشرة، لتعزيزه، ولقطع الطريق على القوات الصهيونية، إذا ما حاولت اجتياز عيثرون من المالكية .
إن أول من استشهد في المالكية نمر طرفة من بنت جبيل، ولا يزال قبره هناك ماثلاً للعيان، كتبت عليه الأبيات التالية:
يا نمر، أنت نمر رابط بوسط غابـة
حامي عرينك من أسود ومن ذئاب
يوم الكريهة خضتها ونلت الثواب
ورمْسَك بوسط المعركة أكبر دليل
إن تطور المعارك على الجبهة، خاصة في منطقة المالكية وجوارها، والتي كانت تبدو فيها الغلبة أولاً للجيوش العربية، وخاصة الجيش اللبناني، لم تجر كما كان يشتهي ويريد الوطنيون، فقد كانت هزيمة جيش الإنقاذ، وتراجع الجيوش العربية، التي كانت وصلت إلى منطقة العفولة، وقيل يومها ان الضابط العراقي، الذي أجبر يومها على التراجع، بحجة أنه «ماكو أوامر»، انتحر، احتجاجاً على التآمر الذي حصل من قبل بعض الأنظمة العربية،المتواطئة مع الاستعمار الانكليزي وغيره.
نشير ان عدداً من الجنود اليوغسلاف،من الذين شاركوا في القتال المقدس من أجل فلسطين، استشهدوا ودفنوا في بنت جبيل، وكانت مجازر الصهاينة في كفر قاسم، ودير ياسين وصلحا، التي ذهب في جامعها أكثر من 105 شهداء ، وكانت نكبة فلسطين المدوّية، وكان النزوح الكبير باتجاه الأراضي اللبنانية، حيث نزل الفلسطينيون في معظم البلدات والقرى المتاخمة، وهم يعتقدون أن المسالة هي مسألة أيام أو أسابيع، ثم يعودون إلى ديارهم، وهم لا يعلمون أن المؤامرة كبيرة، وأكبر بكثير منهم، وان بعض العرب مشاركون فيها.
نشير هنا انه سقط النقيب محمد زغيب شهيداً في المعركة، دفاعاً عن عروبة الجليل وفلسطين» ويقول في هذا الصدد كل من أحمد وحسن عطية: «عندما فُرض التهجير على أبناء قرى الجليل، عبر الكثيرون منهم، بمن فيهم أهالي قرية «علما» الوديان والهضاب مشياً على أقدامهم، أو على ظهور دوابهم، ليصلوا إلى أقطار اللجوء، وقد اتجهوا بالفطرة، حيث كانوا يظنون أنهم سيحلّون ضيوفاً على إخوة لهم، وهكذا توجهوا إلى لبنان، وقد انطبقت في أذهانهم صورة الشهيد محمد زغيب، بطل معركة المالكية، الذي استشهد دفاعاً عن عروبة الجليل، كما انهم لم ينسوا للحظة واحدة، القائد القاوقجي، الذي عاد ليقود فرقة جيش الإنقاذ» .
6 ــ المنطقة بعد الخمسينات، مشاركة في المقاومات الشعبية
الحدث الأهم الذي حصل في بداية الخمسينات، على الصعيد القومي، انتصار ثورة 23 يوليو ـ تموز، في مصر، والتي اعتبرت بمثابة بداية تحرر الأمة العربية كلها، وانعكس انتصار الثورة هناك على الأوضاع السياسية في المنطقة العربية، حيث حدثت مظاهرات التأييد والابتهاج.
في جبل عامل، كانت ردة الفعل مهمة، خاصة وأن الجوّ العروبي كان هو السائد في كل بلداته وقراه، ومن المعلوم أن كميل شمعون تسلم رئاسة الجمهورية في تلك الفترة ، بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري، ومنذ تسلمه المنصب، انقلب على معظم حلفائه الأقدمين، ولم يتعاون معهم ، وكان لجبل عامل، عبر بعض قياداته الوطنية، ومواطنيه موقف بارز من كميل شمعون، ومن مشاريعه التي كان يعمل من أجلها ، وشنّت أجهزة السلطة يومها حملة من الاعتقالات ضد كل المعارضين، وكانت المنطقة الجنوبية، ضمن المناطق «التي فرضت عليها حالة الطارئ منذ سنة 1956، وكانت الأجهزة العسكرية تتولى مراقبة الحريات، وقمع التظاهرات المطلبية والاجتماعية، وتقوم باعتقال المواطنين، ومحاكمتهم، في الوقت الذي كانت تتمتع فيه مناطق لبنانية أخرى، بشيء من الحرية النسبية.
كما أن الرئيس شمعون، كان يعتبر ـ وبالرغم وجود زعامات تقليدية ـ ان الجنوب ذو وجه عروبي منذ مئات السنين، ولا يمكن، حتى لزعماء الجنوب، ان يسوقوا الناس على هواهم، وكما يرون، وإذا كانوا قادرين على التأثير الكبير، على نسبة معينة من المواطنين، فهم غير قادرين على التأثير على كل الناس، وخاصة في الأمور الوطنية الحساسة، والأمور القومية، خاصة وان الساحة الجنوبية، راحت تشهد نشاطاً لأحزاب قومية مهمة، كحزب البعث العربي الاشتراكي، ولمد ناصري كبير، أخذ يبرز أكثر فأكثر بعد تأميم قناة السويس سنة 1956، والردّ على ذلك، بالعدوان الثلاثي على مصر، وردّة فعل الجماهير العربية، ومنها الجماهير العاملية، تأييداً لثورة مصر وقائدها جمال عبد الناصر، والوقوف ضد المعتدين الفرنسيين والانكليز والصهاينة.
إن هذه الأحداث، وما رافقها، خلقت مناخاً صالحاً، لبروز قوى وطنية وتقدمية وقومية في المنطقة، وخاصة في بنت جبيل وعيناثا وعيثرون وشقراء وغيرها من البلدات الأخرى، حيث اتسع نشاط الأحزاب القومية، في وقت كانت فيه أحزاب أخرى قد رسّخت أقدامها في المنطقة، في وقت مبكر، كالشيوعيين والقوميين السوريين، وشعرت قوى السيطرة، المشكلة من تحالف الإقطاع السياسي والبرجوازية، بالخطر على مواقعها، خاصة وانها تتحمل جزءاً أساسياً، مع السلطات الحاكمة، عن كل حالات التردي والتخلف والحرمان في المنطقة.
في أيار سنة 1957، جرت انتخابات نيابية جديدة، وعمل كميل شمعون على إسقاط كل الرموز الناصرية، وذلك عن طريق تزوير الانتخابات، وكان لذلك ردود فعل سلبية كبيرة، خاصة لدى الحركة الوطنية والقومية، التي ساعدها نجاح «تحقيق الوحدة بين سوريا ومصر في 22 شباط سنة 1958، وتأسيس دولة الوحدة باسم: «الجمهورية العربية المتحدة» .
في تلك الفترة، أنشئت في لبنان جبهة الاتحاد الوطنية المعارضة لكميل شمعون وعهده وسياسته، خاصة انه كان من أركان حلف بغداد.
في نيسان سنة 1958، انطلقت من مدينة صور أول تظاهرة حاشدة، تهتف بسقوط كميل شمعون، فتصدى للمتظاهرين رجال السلطة، فسقط من المتظاهرين أربعة شهداء. وفي السابع من شهر أيار سنة 1958، كانت جريمة اغتيال الصحافي التقدمي والوطني المعروف، نسيب المتني، عميد التلغراف.
وفي 14 تموز سنة 1958، قامت ثورة العراق، التي قضت على آمال وأحلام كميل شمعون، بالرغم من انه كان قد استدعى الأسطول السادس الأميركي، لدعمه، وتنفيذ مخططاته ، لكن الثورة الوطنية، وبالرغم من الفوضى التي رافقتها، وعدم تنظيمها بشكل مقبول، استطاعت ان تسقط شمعون، وحالت دون تنفيذ مشروعه الاستعماري.
هكذا هبّت كل المناطق، التي تتواجد فيها قوى وطنية، وأصبح الاحتكام إلى السلاح هو الفصل في الصراع، وفي مناهضه حكم شمعون.
وكان لدولة الوحدة «الجمهورية العربية المتحدة»، دور في دعم الحركة الوطنية، خاصة في بيروت وصيدا وطرابلس، حيث تمّ توزيع السلاح على الأحزاب والقوى الوطنية.
في الجنوب، كان هناك دور مهم لأبنائه، في أحداث سنة 1958، وحصل ذلك على جبهتهم، جبهة أبناء المنطقة المتواجدين في بيروت، وخاصة في ضاحيتها الشرقية، وجبهة الشباب في المنطقة الجنوبية نفسها، فعلى الجبهة الأولى، اضطر المؤيدون للوحدة ـ وهم في الوقت ذاته معارضون لشمعون ومخططاته، وموجودون في منطقة شعبية، معظم أفرادها مناوئون لهم، ومؤيدون لأحزاب داعمة لشمعون ـ لترك المنطقة الشرقية من بيروت، والانتقال إلى العاصمة، حيث كان الجو السياسي كله عروبياً، فشاركوا بالمظاهرات والاضطرابات والأعمال العسكرية، وذلك من خلال مشاركتهم في صفوف المقاومة الشعبية.
أما في المنطقة الجنوبية، فقد ذهب عدد مهم من المحازبين إلى سوريا، حيث اشتركوا بدورات تدريبية على السلاح، وعادوا ومعهم أسلحة، واشتركوا بالمقاومة الشعبية، وكان هناك اصطدام بين بعض الشباب العامليين، الذين كانوا يدرسون في الكلية الجعفرية في صور، من جهة، وبين رجال الأمن من جهة ثانية.
انتهت أحداث سنة 1958، وانتهى عهد شمعون، وتمّ انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، حيث شهد عهده عملية إصلاح إدارية مهمة جداً ، كان لها بعض تأثيراتها على المناطق الريفية في لبنان، ومنها منطقة الجنوب، خاصة فيما يتعلق بالمياه والكهرباء، والمشروع الأخضر، ومصرف التسليف والجامعة اللبنانية، وغيرها…
يرتبط بعهد الرئيس فؤاد شهاب حدث مهم، كان له أثر بالغ على التركيبة الطائفية والمذهبية في البلد، فإثر وفاة المرجع الشيعي السيد عبد الحسين شرف الدين، حصل فراغ كبير على المستوى العلمائي والمرجعي لدى الطائفة الشيعية، وخاصة في الجنوب، وتكاثرت الأسئلة حول خلافة السيد،نظراً لأهمية هذا الموقع الديني، والمرجعي، هذا من جهة، ولتنامي المدّ والواقع الشيعي في لبنان من جهة أخرى، وفي مقال للشيخ محمد جواد مغنية في هذا الخصوص، يتساءل، ويقول: من هو خليفة شرف الدين؟، وبعد قراءته لموضوع اختيار الخليفة، من وجهة نظر الإمامية، خلص إلى القول: «إن الشيعة يتركون التصفية والغربلة للأيام، فهي وجدها الكفيلة باختيار الأصلح والأصدق والأنفع» .
وبالفعل، فإن الأيام حملت للشيعة هذه المرة رجلاً اتسمت فيه الصفات الثلاث ، التي عناها الشيخ مغنية: الأصلح والأصدق والأنفع، انه الإمام السيد موسى الصدر، الذي جاء يكتب للشيعة وللبنان تاريخاً جديداً للمواطن والوطن.
وكان لتأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وعلى رأسه السيد، الدور المهم في مرحلة، كان من الواجب جداً، خلالها، وجود قيادة دينية رائدة، يلتف حولها الجميع، واستطاع السيد بالفعل ان يقوم بدوره على أفضل ما يكون، وأسس مؤسسات تربوية واجتماعية وصحية وغيرها، ولا شك ان الدور الذي لعبه السيد، وما وصلت إليه أوضاع الطائفة، فيما بعد، كانت من العوامل الرئيسية لإخفائه وإنهاء دوره في مرحلة ثانية.
7 ــ القوى الوطنية تبنى مجداً
انطلاقة الثورة الفلسطينية
بين سنة 1948، تاريخ سقوط فلسطين بأيدي الصهاينة، وبتواطؤ انكليزي وعالمي، وسنة 1965، سنة انطلاقة الثورة الفلسطينية، فترة ليست بطويله، بعمر الزمن، سبعة عشر عاماً فقط، هذه الثورة، التي كانت قد وجدت سنة 1948، في البلدات والقرى العاملية، حضناً دافئاً يحتضنها ويدعمها، ويقدّم لها ما لم يقدمه أحد، فإنها وجدت، مجدداً، وبعد انطلاقتها في منتصف الستينات، القاعدة والأرضية المناسبة لها، بكل ما في الكلمة من معنى، فالمجتمع، وطني، قومي، لكن يسوده الفقر والحرمان، والتسلط، وعدم الإنماء، إلا في الفترة الشهابية التي تحدثنا عنها، والتي حاولت التركيبة السياسية القابضة على زمام الوضع في البلد، ان لا تجعلها تأخذ مداها، إلا في حدود معينة، وألا يتعدى الإنماء والإصلاح الاجتماعي، الحدود السياسية، فالإصلاح السياسي كان ممنوعاً.
عندما حضر الأب لوبريه إلى لبنان، بناء لرغبة الرئيس فؤاد شهاب، وبعد أن أجرت بعثته دراسة شاملة لكل المناطق اللبنانية، أكد على مسألة مهمة، وهي ان عدم وجود إنماء وإصلاح، يستفيد منه الإقطاع السياسي، ليبقي على التخلف مسيطراً في المناطق، وخاصة الريفية، كما تستفيد منه التيارات السياسية والحزبية اليسارية، التي تجد البيئة الصالحة لنضالها، والحاضنة لها، لذلك، فإن المنطقة العاملية كانت تنتظر شيئاً ما، وكانت تتهيأ لمخاض عسير، لتنطلق من القمقم، وتعبّر عن نفسها بحرية وجرأة، بعد فترة طويلة من الضغط، وعدم تبلور واقع يعطيها دوراً هاماً، تستأهله على الساحة اللبنانية عامة، والعاملية خاصة.
لقد ساعد العامليين تاريخهم الوطني المشرّف، الذي لا ينسى، والذي كان من مؤشراته الرئيسية، احتضان الانتفاضة الفلسطينية القسّامية سنة 1936، والحركة العربية مع جيش الإنقاذ سنة 1948، والمشاركة في كل المؤتمرات واللقاءات الداعمة لقضية الشعب الفلسطيني، ان هذا الأمر شكل قاعدة الانطلاق، عوضاً عن عنصر الجغرافيا، الذي كان له دور هام أيضاً، فبين البلدات العاملية، وخاصة تلك المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة، وفلسطين، مسافة أقل من خمسة كيلومترات، وهي لا تشكل شيئاً، فالأرض متصلة ومتداخلة أصلاً، وهناك أراضٍ في فلسطين المحتلة، في صلحا والمالكية وقدس وغيرها، هي ملك للعامليين.
من هنا، فإن التماهي مع انطلاقة الشعب الفلسطيني سنة 1965، كان سريعاً جداً، وكذلك الانسجام معها، والتلاقي مع أهدافها، ولا يحتاج كل ذلك إلى مقدمات ونقاشات وتفكير عميق، فهو أمر طبيعي، لا جدال فيه.
استمر الوضع على هذا الحال حتى حرب الخامس من حزيران سنة 1967، وخلال هذه الفترة، كان الجنوب اللبناني يتعرض لحملة منظمة، من القهر والتعسف، على يد السلطة الحاكمة وقتها، وكذلك كان الشعب الفلسطيني يتعرض لاعتداءات متكررة وشبه يومية ، هذا الأمر كان يترافق مع إهمال متعمد للمنطقة على الصعد كافة.
إثر الحرب، صدر القراران 242 و338، اللذان يتضمنان أسس التسوية، وعدم اكتساب الأراضي عن طريق الحرب، وحق كل شعوب المنطقة في العيش بسلام، ضمن حدود آمنة ومعترف بها… وانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة (حصل خلاف بالترجمة، واعتمدت إسرائيل عبارة «انسحاب القوات الإسرائيلية من أراضٍ محتلة، وهذا يعني ان الانسحاب ليس من كل الأراضي التي احتلت، وهذه شكلّت أزمة لا تزال قائمة حتى اليوم).
8 ــ الدخول المقاوم إلى المنطقة الحدودية
في تشرين الأول سنة 1969، حدثت تطورات مهمة على صعيد المنطقة الحدودية، المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة، ففي هذا الشهر دخلت عناصر فدائية فلسطينية إلى المنطقة، وتمركزت في أكثر من مكان في البلدات والقرى، وخاصة في بنت جبيل، حيث تمّ احتلال مخفر الدرك، وجرّد عناصره من السلاح، واحتل مركز الهاتف، وكان الفدائيون ينتمون إلى منظمتي فتح والصاعقة، جرت اتصالات مع بعض القوى النافذة في المنطقة، ومع الجيش اللبناني المتمركز في منطقة السلاسل، وتمّ حشد عسكري لبناني، وطوقت بنت جبيل، وأعطي إنذار للفدائيين بوجوب الانسحاب من المخفر والمؤسسات الرسمية الأخرى.
استفاد الفدائيون من العطف الشعبي معهم، ومن احتضان الناس لهم، فرفضوا الإنذار، ولعبت الأحزاب اليسارية دوراً مهماً في دعمهم، نكاية بالسلطة، وهذه الأحزاب كانت تنتظر مثل هذه الفرصة المؤاتية لتتنفس الصعداء، وتتحرر من القيود التي كانت تكبّلها.
جرت مفاوضات، وانتهت أخيراً بالانسحاب من المخفر، وإعادة السلاح إلى العسكريين، وانتقال الفدائيين إلى الساحة القديمة، حيث استقروا في السنترال القديم، الذي تحول خلال يومين إلى مكتبين للمنظمتين المذكورتين سابقاً.
انتقل عدوى ما حدث، في بنت جبيل إلى بلدات وقرى المنطقة، خاصة عيناثا، عيثرون، شقراء، مجدل سلم وغيرها، وطوّقت بعض هذه البلدات من قبل الجيش اللبناني، وقف المواطنون إلى جانب الفدائيين بشكل واضح، وهدّد الجيش بقصف مجدل سلم، وتمّ قصفها بالفعل.
تطورت الأمور شيئاً فشيئاً نحو الأسوأ، خاصة وان السلطة وجدت نفسها في موقف حرج، وفي موقع لا تحسد عليه، وتدخلت بعض الدول العربية، وجرت مفاوضات وضغوطات على لبنان، نتج عنها أخيراً ذهاب وفدين، لبناني وفلسطيني، إلى القاهرة في مصر، حيث جرت مفاوضات، وتم توقيع «اتفاقية القاهرة»، بعد سبعة أشهر من أزمة سياسية، أمسكت بخناق لبنان، إثر مجزرة 23 نيسان سنة 1969، أو التاريخ الحقيقي لسقوط حكم المكتب الثاني في لبنان .
كان لهذا الاتفاق تداعيات كثيرة، ان على السلطة اللبنانية، أو على الفرقاء الآخرين، فالسلطة اضطرت مرغمة، وبضغط عربي، للاعتراف بشرعية المقاومة الفلسطينية، وعملها، وخاصة في منطقة العرقوب، كما اعترفت السلطة بوجود أطراف لبنانية، مستعدة لحمل عبء وتبعات العمل الفدائي الفلسطيني، وخاصة الأحزاب اليسارية.
الواقع ان المجتمع اللبناني انقسم بين تيارين، أحدهما يعارض الاتفاقية وما جرى، ويعتبر ان السلطة تنازلت عن حقها في ممارسة سلطتها على كامل أرضها، وانها رضخت للإملاءات العربية، والثاني رحّب بحرارة، لأن الوضع تغير لمصلحته، وخاصة القوى الوطنية واليسارية، التي سبق أن عانت ما عانت من ضغوطات وممارسات المكتب الثاني.
ودخلت إسرائيل على الخط، كطرف ضاغط، وبدأت باستهداف البلدات والقرى، خاصة المحاذية للحدود، بقصف عشوائي، ودخول عسكري، وإثارة المشاعر ضد المقاومة، وتحميلها مسؤولية أي اعتداء يحدث.
في تلك الفترة، شهدت منطقة العرقوب استشهاد أول قائد فدائي لبناني، وهو الشهيد أمين سعد (الأخضر العربي)، وجيء بجثمانه إلى البلدة، وجرت تظاهرة ضخمة، شارك فيها عشرات الألوف من المشيّعين اللبنانيين من كل المناطق، ومن الفدائيين الفلسطينيين من كل الفصائل، وكان ذلك تحديداً في 3/12/1969 .
وقبيل منتصف ليل 31 ك1 سنة 1969، أي ليلة رأس السنة، كانت بداية الاعتداءات الجديدة على المنطقة، التي شهدت نزوحاً قسرياً إلى الداخل اللبناني، وخاصة إلى بيروت، وخاصة إلى الأحياء الشرقية في برج حمود، النبعة، سن الفيل، الدكوانه.
واستمرت الاعتداءات على كل البلدات والقرى، التي هي في خط المواجهة، وتمادياً من السلطة في ضرب الحركة الوطنية المؤيدة للثورة الفلسطينية، استهدفت، في 17 آذار سنة 1970، الناشط البعثي في المنطقة، واصف شرارة، وكان واضحاً، ان كل شهيد كان يسقط، كان يولّد ردود فعل سلبية تجاه السلطة، وردوداً إيجابية لدى الحركة الوطنية والمقاومة.
وتطورت الأمور في المنطقة نحو تداعيات جديدة، بعد الذي حصل في الأردن، بين السلطة هناك، والمقاومة الفلسطينية، واضطرار هذه المقاومة للانتقال من الأردن إلى سوريا، ومن هناك إلى المنطقة الجنوبية، من العرقوب، امتداداً إلى كل منطقة الجنوب.
استمرت هذه التحركات من 22 أيار سنة 1970، إلى آب وتشرين أول من نفس العام، انتقالاً إلى العام 1971 والعام 1972 .
في منتصف أيلول سنة 1972 تقاسمت عيناثا وبنت جبيل جزءاً مهماً من الاعتداءات الصهيونية، حيث دخل العدو إلى عيناثا، ولقي اليهود مقاومة عنيفة، من الفدائيين والأهالي، واستشهد يومها الشهيد علي أيوب، الذي ينتمي إلى الحزب الشيوعي اللبناني.
9 ــ الاجتياح الأول
في منتصف أيلول سنة 1972 حصل أول اجتياح صهيوني للبنان، وتحديداً في السادس عشر من ذلك الشهر، وخلال هذا الاجتياح، انقطعت بعض البلدات والقرى الحدودية عن الداخل اللبناني، واستشهد خلال هذا الاجتياح، الذي وصل حتى بلدة قانا، نحو 140 شخصاً، بينهم 80 مدنياً» .
برّرت إسرائيل عدوانها هذا، بالعملية الفدائية التي حصلت في ميونخ، بألمانيا الغربية، واستهدفت قتل رياضيين إسرائيليين، كانوا يشاركون في دورة الألعاب الأولمبية هناك، وذلك في 5 أيلول سنة 1972 .
استغلت السلطة اللبنانية هذا الاجتياح، الاعتداء، ووظفته، واستثمرته لفرض تنازلات على المقاومة الفلسطينية، التي بدأت تتراجع تدريجياً تحت ضغط الاجتياح، وبسبب ممارسة كثير من الأخطاء المميتة، التي كانت آثارها سلبية جداً على المقاومة، ليس في نظر أعدائها وخصومها فقط، بل وفي نظر بعض أصدقائها، الذين كانوا غيورين عليها، ولا يأملون لها الوقوع في الأخطاء.
10 ــ تداعيات الحرب الأهلية
عام ونصف من الازدهار في المنطقة الحدودية
في الثالث عشر من نيسان سنة 1975، انفجرت الحرب الأهلية في لبنان، ولم تصل نيرانها إلى المنطقة الحدودية الجنوبية، حيث بقيت آمنة لفترة، وانتقل إليها معظم الأهالي الجنوبيين، الذين كانوا يسكنون في المناطق الشرقية من بيروت، لأنها أصبحت مناطق قتال وحرب، وتمّت عملية تهجير قسرية هائلة، بحيث لم يبق أي جنوبي في تلك المناطق، إلا فيما ندر، وهم تركوا وراءهم كل ما جنوه في بيروت، خلال ربع قرن، من سنة 1950 إلى سنة 1975.
امتلأت البلدات الجنوبية بأهاليها، والبعض منهم عادوا مع مصالحهم الحرفية أو التجارية، فانتعش الوضع الاقتصادي في المنطقة.
ثم حدثت تطورات عسكرية عديدة، بقيت المنطقة بمنأى عنها حتى 21/10/1976، حيث قامت الميليشيات المتحالفة مع العدو الصهيوني، بقصف سوق بنت جبيل بعدد من القذائف، أثناء انعقاده المزدحم نهار الخميس، حيث قتل وجرح أكثر من عشرين شخصاً من بنت جبيل والبلدات المجاورة .
شهدت تلك الفترة انقسام الجيش اللبناني، في وقت كان الضغط الإسرائيلي يشتد على الجنوب والجنوبيين، وانفلت حبل الأمن في المنطقة، وزاد الطين بلّه احتلال بلدة حانين، الواقعة بين دبل وعين إبل ورميش، وتهجير كل أهلها، وتهديم كل بيوتها، وذلك في ت2 سنة 1976.
في وقت لاحق، تم استيلاء الميليشيات المتعاونة مع العدو، على معظم القرى والبلدات المحاذية، باستثناء بنت جبيل وعيثرون وعيناثا وكونين وبيت ياحون وعيثا الشعب وبرعشيت وشقرا وحداثا وحاريص وغيرها…
وتحولت بعض البلدات الحدودية إلى خطوط تماس فحدثت حركة نزوح معاكسة باتجاه بيروت.
11 ــ اجتياح سنة 1978
استبسال المقاومة
بين أواخر سنة 1976 واجتياح سنة 1978، شهدت المنطقة تطورات عسكرية كثيرة، شارك فيها من جانب القوى الوطنية والفلسطينية، كل الأحزاب اليسارية، التي كانت تعمل تحت قيادة مشتركة في المنطقة، وحركة أمل التي كانت قد شهدت في فترة سابقة تخريج دفعات من أفواج المقاومة، حيث أشرف على دوراتها التدريبية العسكرية الدكتور مصطفى شمران، الذي كان كلّفه السيد موسى الصدر بهذه المسؤولية.
و«فوجئ د. شمران عندما زار جنوب لبنان بالحرمان والظلم، الذي كان يمارس ضد أهله، عندها قرر أن الجنوب سيكون ساحة جهاده، إلى جانب جهاده في إيران، وقد تولى الإشراف الميداني على المواقع الأمامية، التي كان يشغلها مجاهدو أفواج المقاومة اللبنانية في بنت جبيل، ورب ثلاثين وشلعبون وتلة مسعود والطيبة…» .
إن كل ما كان يجري في المنطقة، من تطورات عسكرية وميدانية، منذ نهايات العام سنة 1977، وتهديدات إسرائيلية شبه يومية، كان ينذر بعمل عسكري كبير في الجنوب، «ووجّه رئيس الوزراء الصهيوني إسحق رابين، تحذيراً لقوات الردع العربية في لبنان، ان لا تتجاوز الخط الأحمر في الجنوب، وهو خط حقيقي جغرافي، وليس خطاً نظرياً وهمياً» .
ثم تطورت التهديدات الصهيونية، وأعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، «توقف العمل باتفاق وقف النار في جنوب لبنان» .
ازدادت رقعة الاشتباكات في محاور المنطقة، وخاصة في بلدة مارون الراس، التي شهدت أعنف المعارك، بين القوى الوطنية والإسلامية من جهة، والميليشيات المتعاونة مع الإسرائيليين من جهة ثانية، وحدثت هجومات، وأخرى مضادة، وحصلت مجازر من قبل الميليشيات، طالت مدنيين من مارون الراس.
الإسرائيليون، كانوا يراقبون ما يجري في مارون الراس من مواقعهم المقابلة، دون أن يحركوا ساكناً، حتى إذا احتلت القوات المشتركة (أحزاب وقوات فلسطينية) تلة مارون الراس، فإن الصهاينة، ظهروا أمام العالم وكأنهم ضحية القوات التي رابطت على الحدود، مقابل الدولة العبرية، التي أصبحت في خطر، والحل هو مواجهة ذلك بأي شكل من الأشكال.
في هذه الأجواء المضطربة في المنطقة، والقصف الإسرائيلي المستمر للبلدات والقرى، وتحليق الطيران يومياً في سماء المنطقة، وتنفيذه غارات وهمية، وخرق جدار الصوت، حصلت الحادثة التي كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت الوضع، فقد حدث الهجوم الفلسطيني المباغت، والمميز، على الباص الصهيوني، على طريق حيفا، تل أبيب، بقيادة دلال المغربي، وذلك بتاريخ 11 آذار سنة 1978 .
لم تكن العملية مبرراً للاجتياح، لكن إسرائيل جعلتها كذلك، وهي التي لا تنتظر تبريراً معيناً لتتحرك وتجتاح، وعلى حدّ اعتراف وزير الدفاع الصهيوني، وايزمان، فإن «العملية كانت بمثابة صاعق تفجير، لكن هدفنا الحقيقي هو تنظيف جنوب لبنان مرة واحدة، وإلى الأبد من مراكز «الإرهابيين» الذين تلقوا إمدادات هامة خلال الأشهر الأخيرة» .
هناك هدف آخر، كانت تسعى إليه إسرائيل، ألا وهو خلق منطقة عازلة في الجنوب، بعمق معين، تشغلها قوات دولية، لحماية حدودها، ومنع أية عمليات من الجانب اللبناني.
بعد منتصف ليلة 14 ـ 15 آذار سنة 1978، وفي الساعة الواحدة وخمس وثلاثين دقيقة تماماً، بدأت العمليات الحربية الإسرائيلية، وشنَّ الطيران الحربي المعادي أعنف الغارات، وخاصة على التلال المحيطة ببنت جبيل، ومارون الراس وتلة شلعبون، وتلة مسعود، حيث المواقع الرئيسية للقوات المشتركة، وتمّ تدمير مدرسة المغتربين، (مدرسة جميل جابر بزي). في ذلك اليوم، لم يبق على المحاور الرئيسية من عناصر القوات المشتركة سوى مجموعة قادها المناضل حسان شرارة، عناصرها من السرية الطلابية، التي كان يقودها، المدعو «جهاد»، وهي تابعة لحركة فتح، كما بقي مجموعة أخرى من المجاهدين من الأحزاب الوطنية، خاصة من الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي، وغيرهم، تصدى هؤلاء للغزو الصهيوني، أخّروا تقدمه، وحققوا إصابات في قواته، لكن عدم تكافؤ القوى حسم المعركة لمصلحة العدو، وسقط كل المقاومين شهداء، ودفنوا بمعظمهم في قطعة أرض عند مفرد الطيري، على طريق عين إبل.
احتلت القوات الصهيونية المنطقة كلها، واستبيحت القرى والبلدات لأيام عديدة، فنهبت منازلها، ومحلاتها التجارية، ومؤسساتها الحرفية، ومدارسها، حتى انه لم يبق في هذه البلدات، ما يشير إلى إمكانية العيش فيها، لأن كل شيء كان بحاجة إلى إعادة تأهيل، وكان هناك تركيز في القصف المدفعي على كل البلدات والقرى في المنطقة.
سميت العملية بـ«عملية الليطاني»، وشارك فيها أكثر من 30 ألف جندي صهيوني، ومئات الطائرات والدبابات، وسقط خلالها 1200 شهيد لبناني وفلسطيني، ونزوح أكثر من 300 ألف مواطن باتجاه صيدا وبيروت وغيرهما .
تقدم لبنان بشكوى إلى مجلس الأمن، وبعد المداولات والنقاشات، صدر عن المجلس قرار بتاريخ 19 آذار سنة 1978، نصّ على ما يلي، تحت رقم 425 و426:
أ ـ يدعو مجلس الأمن إلى احترام صارم لسلامة الأراضي اللبنانية، وسيادة لبنان، واستقلاله السياسي، ضمن حدوده المعترف بها دولياً.
ب ـ يدعو مجلس الأمن إسرائيل، ان توقف فوراً عملها العسكري، ضد سلامة الأراضي اللبنانية، وتسحب على التوّ قواتها من كل الأراضي اللبنانية.
ج ـ يقرر مجلس الأمن، في ضوء طلب الحكومة اللبنانية، ان ينشئ فوراً، تحت سلطته قوة مؤقتة، تابعة للأمم المتحدة، خاصة بجنوب لبنان، وغايتها التأكد من انسحاب القوات الإسرائيلية، وإعادة السلام والأمن الدوليين، ومساعدة حكومة لبنان، على ضمان استعادة سلطتها الفعلية في المنطقة، على ان تتألف القوة من عناصر تابعة لدول أعضاء في الأمم المتحدة.
لم ينفذ، من هذا القرار إلا إنشاء قوة مؤقتة، تابعة للأمم المتحدة، لكن كل ما عدا ذلك لم ينفد، فلا الانسحاب تمّ كلّياً، ولا الاعتداءات توقفت، ولا الخروقات الجوية والبرية والبحرية، التزمت إسرائيل بعدم القيام بها، بل استمرت، وبوتيرة أقوى وأكثر اتساعاً، وهذا كان أحد مبررات قيام مقاومة، تأخذ على عاتقها أن تأخذ الحق بيدها، وتدافع عن أرضها وشعبها، لأن القرارات الدولية لا تنفذ إلا على الضعفاء، أما الأقوياء فهم أكبر من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهم الذين يسخّرون هاتين المؤسستين الدوليتين لمصلحتهم.
يلاحظ ان قرار مجلس الأمن رقم 425، لم يتضمن أية إدانة لإسرائيل على عدوانها، والسبب في ذلك، كما هو معروف عادة، ومتوقع باستمرار، تهديد المندوب الأميركي في مجلس الأمن، باستخدام حق النقض «الفيتو»، ضد أي قرار يدين إسرائيل .
بعد صدور القرار، اضطرت إسرائيل للانسحاب، من جزء من المنطقة التي احتلتها، وانتشرت فيها قوات الطوارئ الدولية، وظلت القوات الإسرائيلية في ما سمي بعد ذلك بـ«الشريط الحدودي المحتل، أو «المنطقة الأمنية»، أو «الحزام الأمني»، الذي ضم 55 بلدية وقرية، يسكنها أكثر من مئة ألف مواطن، ومساحتها 700كلم2 .
وتمادياً من إسرائيل في تكريس هيمنتها واحتلالها الطويل للمنطقة، أسست في 19/4/1979، ما سمي بـ«دولة لبنان الحر» بقيادة أحد الضباط اللبنانيين، وهو سعد حداد» .
12 ــ اجتياح سنة 1982
وانطلاق المقاومة الإسلامية
في ربيع سنة 1982، صعّدت المقاومة الفلسطينية من وتيرة عملياتها ضد إسرائيل، وطال قصفها المستعمرات الصهيونية في الجليل الأعلى، مما خلق جوّاً من الرعب في شمال فلسطين المحتلة، يومها، كل وسائل الإعلام، تحدثت عن أمر ما تبيته إسرائيل للبنان، وأن حشوداً إسرائيلية كثيفة، تشاهَد على الحدود، وكما في كل مرّة، فإن إسرائيل تنتظر حتى تحين الفرصة المؤاتية.
وحانت الفرصة بالفعل، وقيل انها هي التي دبّرتها، عن طريق جهاز استخباراتها، ففي الثالث من شهر حزيران سنة 1982، جرت محاولة لاغتيال السفير الإسرائيلي شلومو أزغوف ، ورغم ان منظمة التحرير الفلسطينية نفت يومها مسؤوليتها عن العملية، وهي صادقة، فإن إسرائيل استغلت هذه الحادثة، لتنفيذ اجتياح جديد.
في اليوم التالي، أي في الرابع من حزيران سنة 1982، قامت إسرائيل بقصف مركز، بالطيران والمدفعية، على كل المواقع والقواعد الفلسطينية، ووصلت الغارات إلى قلب العاصمة بيروت، وإلى الجبل، فيما ردّت المقاومة الفلسطينية بقصف المستوطنات في شمال فلسطين.
في السادس من شهر حزيران، بدأ الاجتياح، الذي نتج عنه، وللمرة الأولى، في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، احتلال عاصمة عربية، هي بيروت، واحتلال القصر الجمهوري في بعبدا في 31/6/1982 .
وجرت مفاوضات، قادها فيليب حبيب مع الحكومة اللبنانية، وشاركت فيها دول عربية وغيرها، وانتهت بانتقال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والمقاتلين، إلى تونس، وعدة دول عربية أخرى، وكان الخروج خلال شهري آب وأيلول، ودخلت القوات الدولية المتعددة الجنسيات.
في تلك الفترة ارتكب العدو الصهيوني وعصاباته أبشع المجازر، وكان أشهرها وأخطرها مجزرة صبرا وشاتيلا، التي قادها وزير الدفاع الصهيوني شارون، والتي ذهب ضحيتها آلاف المواطنين الفلسطينيين واللبنانيين.
لابدّ من الإشارة، إلى المواجهات البطولية، التي خاضها مناضلو الأحزاب الوطنية وحركة أمل، وغيرها، وإلى العمليات الفدائية المهمة، التي قام بها مناضلون في عدة مناطق من بيروت، ضد القوات الصهيونية، والتي انتهت، بإعلان العدو وقوله: «يا أهل بيروت، لا تطلقوا النار، سوف ننسحب».
ثم صدر قرار مجلس الأمن، رقم 509، الذي تضمن الدعوة لتطبيق القرار 425، والحفاظ على وحدة لبنان، وسيطرة الدولة اللبنانية على أراضيها كافة.
ترافقت المواجهة العسكرية للعدو الإسرائيلي في بيروت وغيرها، مع نضال سياسي واجتماعي لمواجهة العدوان وإنجازاته، وآثاره على كل الصعد، خاصة أمام تجاوزات السلطة وانحيازها وفئويتها.
في منطقة الجنوب، الذي أصبح كله محتلاً، ففي شهر حزيران سنة 1982، أعلن العميل سعد حداد، توسيع الحدود الجغرافية لانتشار قواته العميلة حتى صيدا، ثم كانت المفاجأة التي أذهلت العدو، وهي عملية الشهيد أحمد قصير، الاستشهادية، في صور، في مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي هناك، والتي أدت إلى سقوط 69 قتيلاً، وجرح أربعين، وكانت بمثابة ضربة قاسمة للجيش الإسرائيلي، وكانت فاتحة لعصر العمليات الاستشهادية .
وفي أيلول سنة 1982، تم تشكيل جبه وطنية لمقاومة الاحتلال، من الأحزاب الوطنية والقومية والأممية، وصار هذا الاسم يأخذ طريقه إلى الإعلام مع بداية سنة 1982.
ثم جرت مفاوضات لبنانية إسرائيلية، في منطقة الناقورة، كان من نتيجتها توقيع الاتفاق المشؤوم، الذي عرف باتفاق 17 أيار سنة 1983.
وعملت إسرائيل، أكثر فأكثر، لتكريس عملية التطبيع معها، نتيجة ضغوطات صهيونية مختلفة، أخذت في بعض الأحيان أشكالاً اجتماعية واقتصادية، خاصة على صعيد الاستشفاء، التجارة، منع استيراد المحروقات اللبنانية، والتبغ اللبناني، إلا عن طريق الموانئ الإسرائيلية، أو عبر مرفأ الناقورة، الذي يسيطر عليه، إضافة إلى استيراد كثير من السلع والأدوات الكهربائية، بشكل غير شرعي، وإغراق السوق الجنوبي بها، إضافة إلى زيارات متكررة إلى الأرض المحتلة، بهدف الاتصالات الهاتفية، والسفر إلى الخارج، والترفيه عن الأنفس، بالنسبة للبعض…
13 ــ مرحلة متميزة من نضال المقاومة الإسلامية
يعتبر الإمام السيد موسى الصدر، المحرّك الأول للنضال ضد إسرائيل، وتشكّلت المجموعات العسكرية الأولى بقيادة الدكتور مصطفى شمران (الذي أصبح بعد انتصار الجمهورية الإسلامية في إيران، وزيراً للدفاع، ثم استشهد أثناء المعارك التي حصلت على الجبهة العراقية).
وكل الأدبيات العائدة إلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وللحركة الإسلامية الأولى، تشير إلى ان الإمام لم يترك لحظة من اللحظات، إلا وسخّرها في سبيل الدفاع عن الجنوب، الذي كان يتعرض باستمرار لاعتداءات إسرائيلية، وكانت تُدمّرُ بيوت، ويستشهد مدنيون، من الأطفال والنساء والشيوخ، وكان كل ذلك يؤثر في سير العملية الحياتية والاقتصادية، والمعيشية في المنطقة.
وكان لدى السيد موسى استشراق واضح للمرحلة القادمة، ولما يهيأ للجنوب من مشاريع، وكان يحذر دوماً من الخطر الصهيوني، وكان له وجهة نظر من التصرفات اللامسؤولة التي كانت تقوم بها بعض الفئات من الفصائل الفلسطينية في المنطقة، وكذلك ما كانت تقوم به بعض عناصر الأحزاب الوطنية، «حتى ان الإمام اتّهم من قبل بعض هذه الحركات، باتهامات شتى، وساءت العلاقات بين حركة أمل من جهة، والأحزاب والقوى الفلسطينية من جهة أخرى» .
ولأن السيد كان يدرك خطورة الوضع في الجنوب، وان هذه المنطقة هي في مهب الريح، ويمكن ان يكون هناك مؤامرة عليها، مع ملاحظته الغياب الكامل للدولة، عنها، وتركها للقدر من جهة، وللأطماع الإسرائيلية من جهة ثانية، وللفوضى العارمة فيها من جهة ثالثة، فإنه دقّ ناقوس الخطر، وبدأ ينشط إعلامياً وسياسياً، للدفاع عن الجنوب، وتوعية المواطنين بأن العدو الأساسي هو «إسرائيل، التي هي شرّ مطلق، وبنى علاقات متوازنة مع الطوائف الأخرى في لبنان، وقام بعدة مبادرات تجاه كل الأفرقاء على الساحة، وكان يطمح ألا يكون هناك قتال بين الأخوة، أي بين القوى المسلحة، الموجودة على أرض الجنوب.
وحصل لقاء جماهيري كبير في صور، وأطلق السيد من هناك عبارته المشهورة: «السلاح هو زينة الرجال».
تطورت الأمور السياسية، تماهياً مع تطور الأوضاع العسكرية، وكانت مؤامرة تحاك في الخفاء، أبطالها عديدون، غايتها شطب السيد موسى الصدر من الخارطة السياسية، في لبنان، وبالتالي، الحدّ من اندفاعه الطائفة الشيعية، وتنفيذ مخططات مشبوهة في البلد، ونجحت الخطة في فصلها الأول، بإخفاء السيد موسى الصدر، ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب، والصحافي عباس بدر الدين، في ليبيا، بعد زيارة قاموا بها إلى هناك، بعد تنسيق مع بعض الرؤساء العرب، ومعرفتهم.
لم تمر فترة قصيرة على الاختفاء ـ المؤامرة، حتى جاء انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بقيادة الإمام الخميني (قُدس سرّه)، وكان لهذا الأمر تأثير كبير، ومباشر على الوضع في لبنان، أولاً من خلال وجود الطائفة الشيعية، التي كانت تمرّ بمرحلة جديدة في تاريخها، وهي تخوض حرباً ضد إسرائيل، وثانياً من خلال المقاومة الفلسطينية، حيث اعتبرت الجمهورية الإسلامية، ان مسألة فلسطين، هي مركزية بالنسبة لها، وهي النقطة الأهم في مسيرة الثورة ونضالها، وكان أول عمل قامت به الثورة، قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني الغاضب، وإنشاء سفارة لدولة فلسطين، رفع عليها العلم الفلسطيني.
ثم بدأت بعض القوى الشعبية الإيرانية تفد إلى لبنان، وخاصة عن طريق سوريا، التي ارتبطت منذ انتصار الثورة، بعلاقات مميزة مع إيران، وكانت سوريا الدولة العربية الوحيدة، التي وقفت ضد الحرب التي شنّها صدام حسين ضد الحكم الإسلامي الجديد في إيران، مدعوماً في ذلك الوقت من أنظمة عربية عديدة، أهمها الدول الخليجية، وكان التساؤل، هو لماذا لم يشنّ صدام مثل هذه الحرب، عندما كان شاه إيران، حارس الخليج الأميركي، في الحكم، ولماذا لم يطالب صّدام بما يريده من إيران في زمن الشاه، وقبل الثورة.؟
وكذلك الأمر بالنسبة لدولة الإمارات العربية، التي لم تطالب يوماً بجزر «أبو موسى» و«طنب الكبرى» و«طنب الصغرى»، أيام كان الشاه حاكماً في إيران، فلما انتصرت الثورة، راحت تطالب بأحقيتها في هذه الجزر، تساندها في ذلك معظم دول الخليج!!؟؟
المهم ان العلاقات بدأت بين الإيرانيين من جهة، وفريق من اللبنانيين والفلسطينيين من جهة أخرى، وكان التنسيق يتطور تدريجياً، وعرفت الساحة اللبنانية نشوء مجموعات إسلامية متفرقة، يعمل كلٌّ منها تحت عنوان معين.
من التشكيلات الإسلامية التي نشأت، «الشباب المؤمن»، أو ما صار يعرف بـ«الإسلاميين»، الذين انتظموا في مجموعات عسكرية في بيروت والضاحية، فضلاً عن تشكيلات أخرى، عرفت باسم «اللجان المساندة للثورة الإسلامية، وهي جميعها اشتركت في القتال ضد حزب البعث الموالي للنظام العراقي، وأسهمت حروب الشوارع في زيادة تجزئة المناطق الإسلامية»، وبالمقابل في تكتل المجموعات الإسلامية، بما فيها تلك المنضوية في حزب الدعوة» .
كان يوم التاسع من حزيران سنة 1982، يوماً محموماً، حين تقدم الجيش الإسرائيلي من البرّ والبحر نحو بيروت، في الوقت الذي كانت تتقدم فيه وحدات أخرى في الجبل والجنوب…
وبات المشهدان، السياسي والعسكري متلازمين، ويبعثان على اليأس، من إحداث أي تغيير في صورة الوضع، الذي أخذ ينشئه الجيش الإسرائيلي المتقدم بسرعة مذهلة.
المهم، ان عناصر المقاومة أخذوا بالتصدي لآلة الحرب العسكرية الصهيونية، في أكثر من مكان، وكانت معارك مشرّفة خاض خلالها المقاومون معارك استبسالية بطولية، جعلت الإسرائيليين يفكرون بعواقبها، وقدّم المقاومون يومها عدداً من الشهداء الأبرار، وكان أفراد حركة أمل في مقدمة الذين تصدوا للزحف الصهيوني عند خلده».
بالنسبة لحزب الله، الذي كان في بداياته التأسيسية، فإن مسؤول العلاقات الخارجية فيه، السيد نواف الموسوي (قبل أن يصبح نائباً)، أعلن خلال مقابلة معه، «ان الحزب شارك في هذه المعارك، وسقط للحزب بعض الشهداء، وهناك بعض القياديين الحاليين في الحزب، شاركوا يومها في تلك المعارك».
هنا يبرر الدور المهم للعلاّمة السيد محمد حسين فضل الله، الذي كان موقفه حاسماً، بضرورة مقاومة الإسرائيليين، بأي شكل من الأشكال، وتأمين مستلزمات الدعم للمقاومين، وفي هذا الصدد يقول حسن فضل الله: «خاضت تلك الجماعات معارك عنيفة مع الاحتلال، ترجمت فيها هذه الرؤية ـ (وكانت تنتمي إلى الجماعات التي نشأت في المساجد، أو إلى حزب الدعوة، واتخذت من خلدة وكلية العلوم، مجالاً للتعبير عن رؤيتها في القتال، ما أمكن لها، تحويل النقاش الفقهي، حول موجبات خوض القتال، إلى تثبيت لرؤية القائلين بضرورة الاستمرارية، وعدم انتظار توفر الإمكانيات الممهدة للانتصار) ـ التي ظلت تتفاعل بين اتجاهاتها الفقهية، حول حدود المواجهة، وجاءت تعبيراتها من خلال آراء علماء الدين المتواجدين في الضاحية الجنوبية، فمنهم من بنى رؤيته، على قاعدة ضرورة تأمين طرق الإمداد للمقاتلين المتوجهين إلى خطوط المواجهة، كما فعل السيد محمد حسين فضل الله، فاتخذ بعض المقاتلين من هذه الرؤية منهجاً في حركتهم العسكرية، ومشاركاتهم في القتال، عند كلية العلوم والمحاور الأخرى… وبنى علماء آخرون موقفهم، على أساس تأمين مستلزمات الدعم من المسلمين، وفي طليعتهم إيران، لتحقيق التوازن مع الاحتلال، ونحا بعض العلماء منحىً مغايراً، عندما فضّل السكوت، وعدم التصدّي، لأن ذلك يؤدي إلى الحفاظ على الوجود، واستنقاذ ما يمكن استنقاذه» .
هنا يبرز الدور الإيراني، خاصة عندما نشرت الإذاعات، ان وفداً عسكرياً إيرانياً، برئاسة وزير الدفاع، ومشاركة قائد الحرس الثوري، يزور العاصمة السورية، ويجتمع إلى الرئيس السوري حافظ الأسد، لتنسيق المواقف والجهود، بهدف التصدي للغزو الإسرائيلي، وبعد عودته إلى طهران «أعلن الوفد الإيراني، ان سوريا وإيران أبرمتا اتفاقاً، يقضي بإرسال قوات إيرانية إلى لبنان للتصدي للهجوم الإسرائيلي» .
ورحبت كل القوى الإسلامية والفلسطينية، والجمهور الشيعي، الترحيب البالغ بهذا الدخول، وكانت حركة أمل ـ على لسان رئيس مجلس القيادة آنذاك نبيه بري ـ أول المبتهجين، لأن «الثورة تعلن الجهاد المقدس لتحرير ارض لبنان، وجبل عامل، والزحف نحو القدس» .
وبدأت نشاطات الحرس الثوري الإيراني في لبنان، وكان قادة هذا الحرس، في مقدمة المقاتلين ضد الجيش الإسرائيلي، بهدف رفع الروح المعنوية والقتالية للمقاتلين المقاومين، وفي فترة لاحقة، طلب الإمام الخميني، ان يحصر عمل الحرس الثوري في لبنان بالتدريب فقط، دون المشاركة في العمليات القتالية، لأسباب عديدة» .
حاول الإسرائيلي عدم الدخول إلى المناطق المكتظة بالسكان، وحاذر بشدة الدخول إلى الضاحية الجنوبية، ومرّ عند غاليري سمعان، ثم حدثت معركة ثالثة مع الإسلاميين، هي معركة الغبيري، بعد معركتي خلدة وكلية العلوم، ومن أجل ذلك، فإن الإسلاميين احتفظوا بأسلحتهم للدفاع عن الضاحية، إذا ما حاولت إسرائيل مهاجمتها.
ركّزت إسرائيل وضعها العسكري في بيروت الشرقية، وكانت قد رتّبت أمورها في صيدا، حيث أنشأت شركة العال للطيران مكتباً لها في صيدا، ورفع العلم الإسرائيلي فوق سراي صيدا، وزار وزير المالية الإسرائيلي مصرف لبنان في المدينة، وبدأت المصارف الإسرائيلية إنشاء فروع لها في الجنوب، كل ذلك، كان بسبب انقسام المجتمع اللبناني إلى فريقين، أحدهما يمثل الأحزاب اليمينية، التي اعتبرت ان دخول الجيش الإسرائيلي إلى العاصمة، واحتلاله مناطق عديدة من لبنان، وكأنه انتصار لها، وقلب الأمور رأساً على عقب، بعد أن كانت القوى اليسارية والفلسطينية، بعد منتصف السبعينات، قد سيطرت على معظم المناطق اللبنانية (85% من لبنان)، استطاع هذا الفريق تنصيب رئيس جمهورية بالقوة، وعلى ظهر الدبابات الصهيونية.
الفريق الآخر، كان مشكلاً من القوى الوطنية والقومية والأممية، المدعومة من المقاومة الفلسطينية، وهذه القوى كان عليها ان تقاتل، لأنه لا مجال لها إلا هذا الأسلوب، وهو الوحيد الذي يجبر إسرائيل على الانسحاب من بيروت، كما يجبر القوات المتعددة الجنسية، التي كانت بقيادة الأميركان، في التراجع عن الأحياء الداخلية للعاصمة، خاصة بعد افتضاح أمرهم ودورهم في مجازر صبرا وشاتيلا.
تطورت فكرة المواجهة، وطرقها، وزادت عمليات التدريب، مستفيدة من النموذج الإيراني، والإيرانيون كانوا يزيدون نشاطهم مع المقاومين، وكانت السرّية تحكم كل هذه النشاطات والتحركات.
بعد شهر من الاجتياح، تشكّلت هيئة الإنقاذ، وكان البعض يرفض الدخول في الهيئة، ويؤكد الاستمرار في قتال إسرائيل، التي هي غدّة سرطانية في صميم الأمة الإسلامية، انطلاقاً مما قاله الإمام الخميني، والذي كان يؤكده باستمرار السيد موسى الصدر، ورفض كل المخططات الصهيونية، واعتبار هيئة الإنقاذ خيمة أميركية، تمثل الهيمنة الاستعمارية المباشرة، وإدانة السلطة اللبنانية، لتواطئها مع العدو الصهيوني» .
إن الاتجاهات الإسلامية التي كانت تحّبذ اللجوء إلى الخيار العسكري مع العدو، كانت تنشط في عمليات التدريب والتسليح، وبدأ التواصل بين الجنوب والبقاع، تدريباً وتسليحاً وتنظيماً، وفي الفترات الأولى، حدثت عمليات فردية ضد الإسرائيليين، لم يكن يتبناها أحد بشكل صريح، لأن الانتماء لم يكن محسوماً، لهذه الجهة أو تلك، وكانت هناك هجمات غير منظمة، في وقت، كانت «تتوالى فيها الاستعدادات على المستوى القيادي، لتنظيم الصفوف، وإنشاء الهيكليات القيادية، وتأمين عمليات الدعم والتخزين، تمهيداً لتنفيذ الخطوات الكبيرة، وكان بالإمكان الحفاظ على السرية، ما دامت الهجمات تنفّذ من دون إعلان المسؤولية» .
في موازاة عمليات تخزين الأسلحة، وإعداد المجموعات العسكرية، وتنفيذ الهجمات المحدودة، كان هناك إعداد من نوع آخر، وهو تنظيم خلايا المقاومة، وإنشاء الهيكليات التي تدير العمليات العسكرية، وتواكب تنظيم الجسم السياسي، والمدني للحركة الجديدة الناشئة، وعلى المستوى التنظيمي، تمّ تقسيم الجنوب إلى سبعة قطاعات، وتمّ تعيين مسؤول لكل قطاع مع نائب له، إضافة إلى مسؤول عن الأمن…» .
وبدأت عمليات المقاومة الإسلامية، دون الإعلان عن الجهة رسمياً، وحتى عمليات جبهة المقاومة الوطنية، فإنها كانت تحصى، ويتم إصدارها عبر بيانات رسمية باسم الجبهة، وأحياناً كان يتم التداخل في إعلان المسؤولية عن عمليات معينة، و«كان لدى القوى الإسلامية اتجاه للإبقاء على سرّية الاسم، وعدم الإفصاح عنه، وان بدأت تصدر آراء تدعو إلى تبني العمليات، والإعلان عن الهوية السياسية للمقاومة، وظلّ قرار الكتمان سائداً على المستوى الرسمي، على الرغم من استهداف الغارات الجوية الإسرائيلية، لقواعد المقاومة في البقاع، في أواخر سنة 1982، لكن المواقف والبيانات والخطابات، التي يطلقها حزب الله، كانت تتحدث صراحة عن مقاومة الاحتلال، والاستمرار في التصدي له، وهو ما فتح الطريق للإعلان الرسمي التفصيلي عن العمليات العسكرية، تحت اسم «المقاومة الإسلامية» .
نشير هنا، ان الأمين العام السابق لحزب الله، الشهيد السيد عباس الموسوي، «كان على رأس الملتحقين بالدورة العسكرية الأولى، في أواخر العام سنة 1982، وفي ذلك الوقت، كانت العاصمة، وتخومها والجنوب والبقاع الغربي، والجبل، مناطق محتلة، فعمل المقاومون بتشكيلات سرّية، ولم يكن لهم أي بروز إعلامي، أو سياسي، لكن واكب هذا الأمر حركة ثقافية وتعبوية عامة، بدروس الإسلام، من دون إبراز للشكل التنظيمي» .
14 ــ تسلسل عمليات مقاومة
منذ بدايات سنة 1982، برزت بشكل واضح عمليات المقاومة الإسلامية، الذراع العسكرية لحزب الله، وعمليات الأحزاب اليسارية وحركة أمل، وهذا الشريط يبرز أهم هذه العمليات، وما حصل من محطات سياسية مهمة:
ـ في 9/3/1983 حصلت انتفاضة عاشوراء في النبطية ، ومثّلت وقتها قمة المواجهة بين الأهالي الثائرين الغاضبين وجنود الاحتلال، الذين سيطر عليهم الجزع والهلع والخوف، وهم يرون المواطنين، وهم يحملون السيوف، وينادون: «حيدر… حيدر…».
ولعب رجال الدين دوراً مهماً في التحريض السياسي ضد إسرائيل، من خلال خطبهم في المناسبات، ومن خلال التحريض على «الصمود والمقاومة»، هذه العبارة التي أكَّد عليها الإمام الخميني إبان الاجتياح. ومن أبرز رجال الدين، الذين قادوا حركات التمرد والاحتجاج والتحريض، كان الشيخ راغب حرب، الذي كان يعتبر ان التعامل مع إسرائيل حرام، استحضاراً لقول الإمام السيد موسى الصدر.
ـ في آذار سنة 1983، حدث الاعتصام الشهير في جبشيت، والذي مثّل مرحلة مهمة من مراحل النضال العاملي ضد قوات الاحتلال، واعتقل الشيخ من قبل الصهاينة، وحصلت انتفاضة شعبية، وحدث اعتصام شهير في النبطية، واعتصامات أخرى في المساجد والحسينيات، وكانت هناك تغطية إعلامية محلية وأجنبية لها، واستمرت التحركات، إلى أن اضطرت إسرائيل للتراجع عن موقفها، وأفرجت عن الشيخ راغب في الثالث من نيسان سنة 1983.
ـ في الثالث عشر من شهر نيسان سنة 1983، كانت عملية علي صفي الدين في دير قانون النهر.
ـ في العام سنة 1983، وفي ذكرى عاشوراء، ومن الكلية العاملية بالذات، أعلن الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، نائب المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، المقاومة المدنية الشاملة ضد إسرائيل» .
ـ في الرابع عشر من شهر تشرين الأول سنة 1983، كانت عملية «الشهيد الحسين» الاستشهادية الثانية، مقابل ثكنة الجيش في صور، قتل فيها 29 ضابطاً وجندياً، ثم أخذت حركة أمل «تضم صوتها إلى أصوات المحتجين، وتشارك في التحركات الشعبية التي بدأتها، بالدعوة إلى المقاومة السلبية أو الغاندية» .
ـ بعد أقل من سنة، على تفجير مقر الحاكم العسكري في صور تمّ تفجير مقرّ الحاكم العسكري الجديد في صور، ومع إطلالة سنة 1984، كانت صيدا في مواجهة مع العدو، وقد أضحت واجهة العمليات ضد العدو، وفي الثامن عشر من كانون الثاني سنة 1984، كانت العملية المهمة للشهيد نزيه قبرصلي (14 عاماً).
ـ في 6 شباط سنة 1984، حدثت انتفاضة لإسقاط اتفاق 17 أيار ، وقادها بشكل رئيسي نبيه بري، وأسقط الاتفاق فعلاً، وبعدها وسّعت المقاومة عملياتها، وطالت قذائفها مناطق الجليل الأعلى، فارضة على العدو المزيد من التراجع، ليستقر في المنطقة التي كان قد اجتاحها سنة 1978، مع امتداد وصل إلى مدينة جزين.
ـ في السادس عشر من شباط سنة 1984، تمّ اغتيال الشهيد الشيخ راغب حرب، وحدثت إثر هذه العملية انتفاضة عارمة، شملت أكثر من مكان، وفي نفس اليوم، انسحب الجيش الصهيوني من مدينة صيدا .
ـ في 24 شباط، حدثت انتفاضة مهمة في بلدة معركة، بقيادة القائد محمد سعد، وشاركت فيها النسوة بشكل لافت ومميز، واعتقل محمد سعد، وبعد أربعة أيام أطلق سراحه.
ـ في 13 نيسان سنة 1984، انسحب الصهاينة من النبطية، وفي 24 نيسان من نفس العام انسحبوا من البقاع الغربي، وفي 29 نيسان تركوا صور.
ـ في 16 حزيران سنة 1984، كانت عملية بلال فحص الاستشهادية، بقافلة إسرائيلية، عند منطقة الزهراني، وكان لها وقع مهم وسيء على الإسرائيليين ومعنوياتهم.
ثم ازدادت الانتفاضات العاملية ضد القوات الصهيونية، واتخذت بعداً وطنياً مهماً، ولأن إسرائيل شعرت بحجم تأثير رجال الدين على المواطنين، وتعبئتهم ضد الصهاينة، فإنها أقدمت على خطوات، من شأنها، إما ان تحدّ من حركتهم، أو التخلص منهم، ومن هذه الخطوات:
ـ إبعاد الشيخ علي ياسين، الذي نجا من محاولة اغتيال، وإبعاد الشيخ يوسف دعموش إمام بلدة السكسكية، ثم اعتقال السيد محمد حسن الأمين، قاضي الشرع الجعفري في صيدا، ثم إبعاده بعد فترة من الاعتقال إلى بيروت، ثم اغتيال السيد عبد المطلب الأمين .
كما تعرض السيد عبد المحسن فضل الله لعدة محاولات اغتيال، ونجاة الشيخ حسين سرور من محاولة قتل، إلى غيرها من الممارسات الأخرى المماثلة.
ـ ثم بدأ الانسحاب من صيدا، وانتهى في 16 شباط سنة 1985، عند جسر القاسمية، وتمّ ذلك إثر تفاقم صورة الوضع لدى الإسرائيليين، وإدراكاً منهم بعدم جدوى البقاء في بيئة واسعة معادية لهم.
ثم كرّت سبحة المجازر الإسرائيلية، والردود عليها، ففي 14 آذار سنة 1985، حدثت مجزرة معركة، التي ذهب ضحيتها المقاومان من حركة أمل: محمد سعد وخليل جرادي وعشرات الشهداء الآخرين، وحدثت إثرها مواجهات مع الصهاينة، الذين كانوا يحركون عملاءهم، للقيام بعمليات ضد المقاومة، كما حدثت اضطرابات واحتجاجات واسعة على ما حدث، شملت كل المناطق.
ـ في 18 آذار سنة 1985 كانت عملية المقاوم وجدي الصايغ في كفرحونة.
ـ في 9 نيسان سنة 1985، كانت العملية المميزة، التي قامت بها المقاومة سناء محيدلي عند حاجز باتر.
ـ في تلك الفترة ذاتها، وتحديداً بين 14 و15 نيسان سنة 1985، شهدت منطقة شرق صيدا عملية تهجير واسعة، بعد معارك حصلت بين القوى الوطنية والفلسطينية من جهة، والقوات الحليفة مع إسرائيل من جهة أخرى، فتوافدت قوافل المهجّرين إلى المنطقة الحدودية .
ـ في 24 نيسان سنة 1985، انسحبت القوات الإسرائيلية من البقاع الغربي وراشيا.
ـ في 29 نيسان من العام نفسه أخلت القوات الإسرائيلية منطقة صور واتجهت نهائياً نحو الشريط الحدودي المحتلّ، حيث تمّ تثبت هذا الشريط، كما كان عليه الوضع من قبل.
15 ــ شريط جديد، مقاومة مستمرة
بعد تثبيت الشريط، بالشكل الذي أصبح عليه بعد انسحابات سنة 1985، وجد العامليون، الذين يعيشون في المنطقة الحدودية المحتلة، أنفسهم في شعور مزدوج، فمن ناحية كان هؤلاء مرتاحين للانسحابات التي حصلت، ممنّين أنفسهم بانسحابات مماثلة من بلداتهم، ومن ناحية أخرى، كانوا يخافون ألا يتم الانسحاب، فيضيق السجن مجدداً عليهم، بعد أن كان قد فتح بين الاجتياح سنة 1982، وما حصل في نيسان سنة 1985، وهذا ما كان بالفعل، فبعد هذا الانسحاب، بقي الصهاينة خمسة عشر عاماً في الشريط، يمارسون على الأهالي شتى أنواع التعذيب والضغط والظلم والابتزاز…
إن تمركز الصهاينة في الشريط، وتضييقهم على الأهالي، لم يمنع هؤلاء من مقاومة العدو، عبر كل الوسائل، ومنها العمليات الاستشهادية وغيرها وخاصة بعد 15 حزيران.
إن العام سنة 1985 كان عام حزن في المنطقة، حيث زجّ الإسرائيلي بعدد كبير من أبناء المنطقة في سجن الخيام، (وبقي بعض هؤلاء مسجونين حتى التحرير).
لقد شهدت فترة نهاية الثمانينات، وبداية التسعينات، عمليات نوعية ضد العدو، بعضها استشهادية، ففي 10 آذار سنة 1988 نفذت عملية الشهيد عامر كلاكش (أبو زينب)، قرب مستعمرة المطلة، مقابل بلدة كفركلا.
ـ وفي 19 آب سنة 1988 كانت عملية هيثم دبوق على طريق مرجعيون ـ تل النحاس.
ـ وفي 19 ت2 سنة 1988 أيضاً، كانت عملية عبد الله عطوي «الحرّ العاملي»، قرب بوابة فاطمة، عند تل النحاس، في كفركلا.
ـ وفي 9 آب سنة 1989، كانت عملية الشهيد أسعد برّو، على طريق القليعة ـ مرجعيون، حيث سقط للعدو عشرون قتيلاً وجريحاً.
ـ وفي 21 أيلول سنة 1992، كانت عملية إبراهيم ضاهر عند الجرمق.
هذه العمليات، وأخرى غيرها، حصلت كلها قبل عدوان تموز، الذي كانت تهيئ له إسرائيل.
هذه الفترة شهدت حدثاً مهماً جداً، كانت له تداعياته على الوضع الوطني العام، وعلى حزب الله بشكل خاص، وكذلك على حركة المقاومة الإسلامية، وتوجهاتها ومخططاتها، بشكل آني أولاً، وللمرحلة اللاحقة كلها ثانياً.
الحدث هو السيد عباس الموسوي، بحدّ ذاته، وهو الأمين العام لحزب الله حتى سنة 1992، فالسيد، الذي كان حدّد مسار حياته السياسية، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام سنة 1982، كان يعمل مع مجموعة من العلماء في البقاع، وكان ينسق بشكل مباشر مع الحرس الثوري الإيراني، الذي استقرّ في المنطقة هناك، «وانتخب السيد من بين تسعة أعضاء، لوضع الصياغة الأولية للحركة الجديدة الناشئة، واختير كمتحدث باسم الوفد المنتدب للقاء الإمام الخميني، في أول اتصال مباشر مع «الولي الفقيه».
ثم انتخب السيد في أول شورى في بدايات التأسيس، وظل عضواً دائماً إلى حين انتخابه أميناً عاماً، وذلك في العام 1991، وقبل حوالي عشرة أشهر من اغتياله بالمروحيات الإسرائيلية، في شباط سنة 1992، بعد عودته من احتفال في بلدة جبشيت، في الذكرى السنوية لاغتيال الجهة ذاتها (أي إسرائيل) لرفيقه في الحوزة والمقاومة الشيخ راغب حرب» .
بعد هذه العملية، التي أودت بالأمين العام لحزب الله، والتي كانت لها آثار سلبية كبيرة، تم اختيار السيد حسن نصر الله فوراً كأمين عام للحزب.
الأثر الآني الذي خلّفه السيد كان سيئاً جداً على المقاومة، التي اغتيل أمينها العام، بشكل رسم علامات استفهام سريعة، حول الجهة التي ساعدت في تنفيذ العملية، في وضح النهار، وبشكل لم تكن فيه المقاومة تتخذ الإجراءات اللازمة، الكفيلة بحماية قادتها، بالشكل الذي أصبح عليه الوضع لاحقاً، وهل حدث اختراق بالفعل للمقاومة، وكيف حصل الأمر، وما هي آفاق المستقبل؟
الأثر المستقبلي كان الأهم، ومثّل الوجه الإيجابي للأمر، فقد أعطى استشهاد السيد عباس الموسوي المقاومة زخماً شديداً، ودفعاً مهماً إلى الأمام، وغيّر في تحركاتها، ونبّه إلى أمن قادتها، وزاد في سرّية حركتها، وأصبح الحذر أكثر من العملاء، الذين باعوا أنفسهم للعدو والشيطان، مقابل حفنات من الدولارات.
بالنتيجة، فإن استشهاد السيد عباس كان بداية لمرحلة جديدة، زاخرة بالجهاد المتميز، والانطلاق مجدداً بوتيرة أهم وأفضل، وأكثر تركيزاً وسّرية، وثباتاً، وقدرة على مواجهة العدو خلال كل فترة التسعينات، التي زخرت بأحداث مهمة، عسكرية، وبقدرة المقاومة على إثبات نفسها، كلاعب أساسي ومهم، يفرض نفسه على كل مجريات الأحداث، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ركّزت المقاومة على الموضوع الأمني في لبنان، المكشوف على مصراعيه، أمام أجهزة استخبارات عديدة، وخاصة الإسرائيلية، وغيرها، لذلك كان الهمّ الأساسي هو وضع خطة محكمة لحماية قيادات المقاومة من جهة، ومن جهة ثانية تنشيط العمل الاستخباري، بشكل يؤدي إلى كشف النشاطات الاستخباراتية للعدو، ومن يدعمه، تمهيداً لتفكيك الشبكات، التي كان بعض قادة الميليشيا في المنطقة المحتلة، يشاركون في تنظيمها، أو تنفيذها، عبر عملاء لهم في المناطق المحررة، أو عبر عملاء يتنقلون بين المنطقتين، متسترين بأشغال وأعمال مختلفة.
استطاع حزب الله، وبسرعة قياسية مهمة، وبالتعاون مع أجهزة كان يطمئن إليها ، أن يكشف العديد من الشبكات العميلة، والتي كانت مهمتها الأولى، اغتيال الأمين العام الجديد للحزب، السيد حسن نصر الله، أو السيد محمد حسين فضل الله، أو غيرهما من قيادات المقاومة الإسلامية، وكان الحزب يسلّم من تثبت إدانته بالتجسس، أو بتنفيذ عمليات معينة، إلى السلطة اللبنانية، التي كانت تجري بعض المحاكمات، وتفرض العقوبات، وأثبتت هذه العلاقة جدواها وأهميتها، وأتت نتائجها الإيجابية، والمهمة حتى التحرير، وتوثقت بعد التحرير، وبعده.
لقد حصل تغيّر في الوضع السياسي اللبناني، وأثّر على الوضع الأمني، الذي أصبح عرضة لكل التدخلات الخارجية والاستخباراتية الأجنبية، وفي مقدمتها الصهيونية والأميركية.
16 ــ مقاومة نوعية وعمليات استشهادية خلال التسعينات
عدوان تموز سنة 1993
شهدت فترة التسعينات عمليات نوعية للمقاومة، وفي الوقت ذاته تصاعدت وتيرة الاعتداءات الصهيونية، وكان أهمها في 25 تموز سنة 1993، حيث شنّ العدو الصهيوني عدواناً واسعاً، جوياً وبحرياً، طال معظم المناطق اللبنانية، ساحلاً وجبلاً، وصولاً إلى مخيم البداوي في الشمال، واستمر هذا العدوان لسبعة أيام متواصلة، أي حتى مساء 31 تموز سنة 1993، وسميت العملية بـ«تقديم الحساب» .
المقاومة بدورها، واجهت العدوان، و«أخذت هجماتها تلقى صدى عالمياً، ليس على صعيد تأثيراتها المباشرة فقط، بل على مستوى الأداء الميداني، الذي يشبه إلى حدّ كبير أداء الجيوش النظامية» ، إنما هو أقرب إلى حرب العصابات، نظراً لسرّية الأداء، والضرب والتراجع السريع، واعتماد المجموعات الصغيرة، إلخ.
كانت أهم أهداف هذه الاعتداءات الواسعة، انتزاع زمام المبادرة من المقاومة، التي برزت وكأنها هي التي تتحكم بسير الأمور العسكرية، وإنها قدرة على الردّ بعنف على أي اعتداء يقوم به العدو، على البلدات والقرى المحررة.
هناك أمر آخر، كانت تهدف إليه إسرائيل، وقد برز من خلال كل أعمالها العسكرية، فهي تلجأ إلى القصف والتدمير والتهجير، وهذا الأمر، بحسب القادة الصهاينة، يوجد شرخاً بين المقاومة وجمهورها ومجتمعها، وبين هؤلاء جميعاً، والطرف الآخر في الوطن، الذي لا يتبنى أصلاً المقاومة، وكان في مرحلة سابقة متماهياً مع العدو، ومتحالفاً معه.
ويبرز هدف آخر كانت إسرائيل تسعى إليه من وراء عدوانها، ألا وهو الضغط بكل الأساليب، لفصل المسارين السوري واللبناني عن بعضهما، لاستفرادهما، ولابتزاز المفاوض اللبناني في محادثات السلام، ودفعه للقبول بالشروط الإسرائيلية…» .
الموضوع الذي كان يقلق إسرائيل باستمرار، وحتى اليوم، هو موضوع السلاح، الذي طالما أرّقها وأزعجها، وأخافها، ومن هنا، كان رئيس الأركان الصهيوني، آنذاك، إيهود باراك، يطالب الحكومة اللبنانية، بـ«نزع سلاح حزب الله، وإلا فإن إسرائيل ستفعل ذلك» .
لم تستطع إسرائيل تحقيق أي من أهدافها، باستثناء التدمير، وقتل الأبرياء، فلا الشرخ حصل بين المقاومة وجمهورها، بل العلاقات تعمّقت أكثر، والمجتمع احتضن المقاومة بشكل أهم وأفعل، ولا المفاوض اللبناني رضخ للاملاءات والشروط الصهيونية.
فقط أوقع العدوان 198 شهداء و597 جريحاً من المدنيين ، بينما أوساط المقاومة ذكرت أن عدد الشهداء هو 140 شهيداً، بينهم 13 شهيداً من المقاومة الإسلامية» . ويذكر ان من بين الشهداء فلسطينيين ومصريين ونيباليين، قصفت طوافة إسرائيلية مقر قيادتهم في الحنّية (منطقة صور)، وقدّم قائد القوة الدولية الجنرال «تروند فوريهوفت» احتجاجاً شديد اللهجة إلى إسرائيل، على هذا الحادث، في حين اعترف ناطق عسكري، بأن قصف مقر القيادة النيبالية كان «بطريق الخطأ».
وبذلك، ارتفع عدد القتلى والجرحى، منذ صباح الأحد إلى 44 ضحية و222 جريحاً، واستمرت الغارات الجوية على قرى الجنوب والبقاع الغربي، ولوحظ انها ازدادت شراسة وعنفاً، وتركيزاً على الأهداف المدنية.
في تلك الفترة، عقد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، مؤتمراً صحافياً، بعد جولة له على مواقع المقاومة في الجنوب، ووجه كلامه لرابين قائلاً: «نحن نقول لرابين أنه واهم في القضاء على المقامة، وسيدفع الثمن غالياً» .
حصلت تحركات دبلوماسية واسعة، شاركت فيها دول، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية ، سوريا، الجمهورية الإسلامية في إيران، وبالنتيجة توصل الفرقاء لإعلان وقف إطلاق النار، وتمّ تطبيقه مساء يوم 31 تموز سنة 1993.
بعد تلك الفترة، اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً بنشر الجيش اللبناني، في منطقة عمليات القوات الدولية، وشعر حزب الله، والقوى المتعاطفة معه بأن شيئاً ما يحصل، ويستهدفه.
ونشير هنا إلى أن الجيش اختصر رقعة انتشاره في 9 آب سنة 1993، في مواقع محدودة، وهي قانا، جويا، أرزون وبئر السلاسل.
ومع هذه الخطوة عاد مئات الآلاف من الجنوبيين، الذين كانوا قد نزحوا، إلى بلداتهم وقراهم.
وحصلت تظاهرة في 13 أيلول سنة 1993، وعندما وصلت إلى طريق المطار، أطلقت عليها النيران بغزارة، من قوات الجيش اللبناني، فاستشهد تسعة من المواطنين، وجرح آخرون ، وتوترت الأجواء، وبقيت كذلك لفترة طويلة.
وكان لسوريا في ذلك الوقت، دور كبير ومهم في حماية المقاومة من الاستهداف، خاصة وان قوىً داخلية وخارجية، كانت تريد أن تتطور الأمور بين الجيش والمقاومة نحو الأسوأ.
كان من أهم نتائج العملية، فشل كل الأهداف الصهيونية التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية والجيش، وأكثر من ذلك، فقد ازدادت عمليات المقاومة، وتركّزت على كل المحاور والمعابر والمواقع، ومنها موقع بيت ياحون، الذي يؤدي إلى بلدات وقرى القضاء المحتلة.
17 ــ المقاومة تتابع عملياتها
خلال ما تبقى من العام سنة 1993 والأعوام 1994 وسنة 1995 وأوائل سنة 1996، شهد الوضع الأمني في المنطقة توترات شديدة جداً، وشهد معبر بيت ياحون بشكل خاص، وطرق برعشيت وكونين، والطيري، وعين إبل، عمليات نوعية، أثّرت سلباً على المحتل وعملائه، وإيجاباً على المقاومة ومجتمعها. وفي إشارة سريعة إلى أهم العمليات التي حصلت نذكر:
ـ في العام 1994 نفذت المقاومة الإسلامية ما يقارب الـ375 عملية، وسقط للعدو 26 قتيلاً وجريحاً، و50 قتيلاً و180 جريحاً للعملاء.
ـ في العام 1995، وصلت عمليات المقاومة الإسلامية الـ673 عملية، وسقط للعدو 29 قتيلاً و176 جريحاً، باعترافه، كما سقط 44 قتيلاً و104 جريحاً للعملاء.
أهم العمليات، كانت العملية الاستشهادية التي نفذها الشهيد صلاح غندور (ملاك)، أمام مركز الإدارة المدنية عند صف الهوا، بتاريخ 25/4/1995.
وفي 20 شباط سنة 1995 أقدم الشهيد علي أشمر، عند مثلث عديسة، رب ثلاثين، على تنفيذ عملية استشهادية نوعية.
ـ واستمرت العمليات النوعية حتى أواخر ذلك العام.
18 ــ عدوان سنة 1996 وتفاهم نيسان
انتصار جديد للمقاومة
في أواخر سنة 1995، حدثت تطورات مهمة في الكيان الصهيوني، فبعد المفاوضات المهمة والحساسة التي كانت تجري بشكل غير مباشر بين سوريا وإسرائيل، برعاية الأميركان، والتي تم التوصل خلالها إلى نقاط جوهرية، احتفظت بها أميركا، تحت اسم «وديعة رابين»، وتمثلت بمواقفه إسرائيل على الانسحاب من هضبة الجولان، حتى حدود حزيران سنة 1967، بعد ذلك، تم اغتيال رئيس الوزراء الصهيوني اسحق رابين، وذلك في ت2 سنة 1995.
وفي 13 آذار سنة 1996 عقدت قمة في شرم الشيخ، بدعوة من الولايات المتحدة الأميركية، وبحضور ممثلين عن ثلاثين دولة عربية وأوروبية، وغيرها، وكانت الغاية المعلنة دعم التسوية السلمية، لكن الهدف الرئيسي غير المعلن، كان عزل القوى المناهضة للتسوية، والممانعة لأميركا ومشاريعها، وكذلك حصار سوريا، ودعا البيان الختامي إلى «منع أعداء السلام من تدمير فرصة السلام الحقيقية»، كما دعا البيان «لإجراءات ثنائية لمحاربة الإرهاب» .
الواضح، من خلال مجريات نقاشات وقرارات المؤتمر، ان إسرائيل كانت تحظى بغطاء دولي «لشن هجمات على أعدائها» وحدّد شمعون بيريز أعداء إسرائيل الرئيسيين، قبل يومين من انعقاد القمة و«هم حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله» .
مع ساعات الفجر الأولى، ليوم 11 نيسان سنة 1996، بدأت إسرائيل بشنّ عدوانها الجديد، الذي أطلقت عليه اسم «عناقيد الغضب»، وطال العدوان كل المناطق اللبنانية، من الجنوب، حتى بعلبك، وبالمقابل فإن المقاومة، التي كانت قد استفادت من تجربة تموز سنة 1993، وطوّرت أساليبها القتالية، وزادت من أسلحتها، كماً ونوعاً، ردّت على العدوان ، وتميّز هذا العدوان بالمجازر العديدة التي ارتكبها العدو، ظناً منه، ان المقاومة ستستسلم، وترفع أياديها، لكن ظنهم خاب، فكلما كان العدوان يتطور وبقوى، كانت المقاومة تستبسل وترد.
من أهم المجازر التي ارتكبت كانت في بلدة سحمر في 12 نيسان سنة 1996، وفي بلدة المنصوري في 13 نيسان، وتتابعت المجازر في أكثر من مكان.
وبعد ظهر يوم 18 نيسان سنة 1996، أطلق العدو قذائفه وصواريخه باتجاه مركز القوات الفيجية، التابعة لقوات الأمم المتحدة، في بلدة قانا، حيث كان قد التجأ إلى هذا المكان عدد كبير من أهالي قانا وصديقين والقرى المجاورة لها، وجلّهم من النساء والأطفال.
وكانت مجزرة مأساوية، أرادها العدو أن تكون قمة النصر له، فجاءت قمة الهزيمة له ولمشروعه، ولأميركا.
بلغ العدد الإجمالي لشهداء عدوان نيسان 230 شهيداً، بينهم 14 شهيداً للمقاومة الإسلامية، وكان التدمير هائلاً، بحيث انه طال كل شيء .
أن الشروط التي كانت وضعتها إسرائيل لإيقاف عدوانها، بدأت تضمحل تدريجياً، وكذلك بالنسبة للأميركان، الذين شعروا بالإحراج أمام العالم، وأمام الأمم المتحدة، ولم يستطيعوا تغطية المجزرة التي حصلت في عقر دار القوات الدولية.
اقترحت الولايات المتحدة الأميركية هدنة، لوقف إطلاق النار، وكادت الحكومة اللبنانية توافق، لولا مبادرة حزب الله لرفضها، محذراً من مخاطرها، واعتبر في ردّه على الرئيس كلينتون، أن «الهدنة هدفها التغطية على مجزرة قانا، وكيف يمكن للإدارة الأميركية، ان توفّق بين تأييدها لسيادة لبنان على كل أراضيه، ودعمها محتلّيه، ومدّهم بكل أسباب الرعاية السياسية والتفوق العسكري» .
كما رفض الحزب التوقيع على أي اتفاق خطي مع العدو الصهيوني، ولعبت سوريا دوراً في التوصل إلى اتفاق جديد، لمصلحة المقاومة، وكذلك كان موقف الجمهورية الإسلامية في إيران، وبعد مفاوضات عسيرة وصعبة، تم التوافق على تفاهم جديد سمي ـ«تفاهم نيسان»، الذي سرى تنفيذه فجر يوم السبت 27 نيسان سنة 1996» .
نصّ التفاهم على «امتناع إسرائيل والمتعاملين معها من جهة، وجميع فصائل المقاومة من جهة أخرى، عن التعرض للمدنيين، بأي نوع من أنواع السلاح، وكذلك عدم استخدام المناطق المدنية الآهلة، والمنشآت الصناعية والكهربائية، قواعد إطلاق للهجمات» .
لقد فشل العدو، وفشلت من ورائه أميركا، في تحقيق أهداف العدوان، وأكثر من ذلك، فإن المقاومة استطاعت ان تفرض نمطاً جديداً في التعاطي مع العدو، حيث أصبح هناك إقرار واضح، بحق المقاومة، بممارسة الدفاع عن النفس، وتكبيل يد العدو في حرية عمله في المنطقة.
19 ــ بين سنة 1996 حتى التحرير
مقاومة لا تهدأ
استمرت عمليات المقاومة بعد تفاهم نيسان، وكانت تستهدف جنود العدو، وعملاءه، وفي نفس الوقت كان العدو يحاول القيام بعمليات نوعية، يستطيع من خلالها ضرب هيبة المقاومة، باستهداف قادتها، وهذا ما حصل في «انصارية»، حيث كان العدو يمنّي نفسه «بصيد ثمين» هناك .
ـ كانت العملية بتاريخ 5/9/1997، ووقع الإسرائيليون، من النخبة في كمين محكم من قبل المجاهدين في المقاومة الإسلامية، فسقط سبعة عشر صهيونياً قتلى وجرحى، وتركوا بعض أشلاء جنودهم في أرض المعركة.
ـ بعد سبعة أيام فقط من هذا الإنجاز المهم والمميز للمقاومة، فقدت هذه الأخيرة، أحد أبنائها المجاهدين، وهو السيد هادي نصر الله، نجل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وذلك بتاريخ 12/9/1997، وذلك في جبل الرفيع بإقليم التفاح، مع اثنين من رفاقه المجاهدين .
وهذه الشهادة أعطت لمسيرة المقاومة رخماً كبيراً، فمن المرات النادرة، ان تفقد حركة تحرر مقاوماً، هو نجل قائدها وأمينها العام.
في شهر شباط سنة 1999، صعّدت إسرائيل من عمليات خرقها للاتفاقات المعقودة، وقامت بتوسيع الشريط المحتل، ليضم بلدة أرنون، وقدّم لبنان شكوى إلى لجنة تفاهم نيسان .
في منتصف سنة 1999 انسحب العملاء من جزين، وشكّل هذا الأمر هزيمة لإسرائيل، وكان واضحاً ان كل يوم يمر في المنطقة، كان العدو يتراجع فيه إلى الوراء، وتدنّت معنويات عملائه، فحصلت إرباكات كثيرة، وحاول العدو التركيز على المسألة المذهبية، بإطلاقه دعايات بإمكانية حدوث فتنة، لكن المقاومة أكدت ان «جزين حين تعود إلى الوطن، فالدولة بطبيعة الحال هي المعنية بمعاقبة أو ملاحقة العملاء…» .
وتمّ الانسحاب بالفعل، في أول حزيران سنة 1999، وتحررت جزين من دون قيد أو شرط، ولم يدخل إليها المقاومون.
تواصلت التراجعات الصهيونية، وكان واضحاً أن ردود فعل سلبية راحت تظهر في المجتمع الإسرائيلي، وحتى في المؤسسة العسكرية، خاصة وان هذه الأخيرة أصبحت مقيدة بتحركاتها، لأن هناك تفاهمات تفرض عليها ذلك.
إزاء هذا الوضع، المتردي بالنسبة لإسرائيل، فإن هذه الأخيرة حاولت الهروب إلى الأمام، من خلال شنّ عدوان جديد على لبنان، وكان ذلك في 24 حزيران سنة 1999، حيث استهدف الطيران الصهيوني البنى التحتية ومحطات الكهرباء والجسور، وأهدافاً أخرى، في غير منطقة، وحصلت أضرار كبيرة وخسائر مادية، وكانت الخسارة أكبر، لأن لبنان كان على أبواب فصل الصيف.
وسقط بفعل هذه الغارات ثلاثة شهداء من فوج إطفاء بيروت، و15 جريحاً .
بعد تلك الفترة، انشغلت الأقلام والصحف، برسم سيناريوهات متعددة للمرحلة المقبلة ، خاصة وان العدو كان يعيش أجواء ملبّدة، وكان يبدو الارتباك واضحاً على كل قياداته السياسية والعسكرية، وكذلك على قيادة وأفراد العملاء، وهذه التركيبة الأخيرة شهدت في تلك الفترة عمليات هروب عديدة، خاصة بعد العمليات النوعية للمقاومة، وليشدّ قائد هذه القوات العميلة، من عضد جنوده، أكد ان ميليشياته، «لا تسجل حالات فرار في صفوفها، بل تستقبل 30 إلى 40 متطوعاً جديداً شهرياً» إلا انه «رفض الكشف عن عديد جنوده» مشيراُ إلى انه «رقم محدود» ، وهو مخطئ، عندما يذكر انه يستقبل متطوعين، والحقيقة، أن هؤلاء كانوا يساقون بالقوة للالتحاق بقواته، باستثناء أقلية، كان أفرادها يتطوعون بمحض إرادتهم.
لم تتوقف العمليات المقاومة أبداً، وشهدت الشهور الأخيرة من العام 1999، وأوائل سنة 2000، عمليات عديدة ضد مواقع الاحتلال والعملاء ، هذا وتشير الإحصائيات، ان المقاومة نفذت ضد العدو، في موقع كفرحونه 142 عملية، أدت إلى مقتل 54 جندياً إسرائيلياً وعميلاً، وجرح 107، وأسر عميلين، وذلك منذ ما بعد منتصف الثمانينات حتى سنة 2000، مما اضطر العدو إلى إخلائه.
في أوائل سنة 2000، نفّذت المقاومة عملية نوعية، تعتبر من أهم العمليات، نظراً لتأثيراتها السلبية الكبيرة على العدو وعملائه، فقد تمكنت المقاومة الإسلامية من قتل العقيد في جيش العملاء، عقل هاشم، أثناء وجوده في مزرعته في خراج بلدته دبل ، وتوعد القادة الصهاينة بالاقتصاص من منفذي هذه العملية، التي سببت تدهوراً بالغاً في الأمن على الحدود.
هذا الحدث مثّل بداية النهاية لجيش العملاء، خاصة وان خلافات نشأت داخل الميليشيات لخلافته، ورداً على ما حصل، استهدف العدو عدة بلدات في المنطقة، وخاصة ياطر، تولين، مجدل سلم، الصوانة، شقرا، مجدل زون، المنصوري، وأودية السلوقي، القيسية، جب سويد، الكفور في النبطية، حداثا، برعشيت وعيثا الجبل.
وأكثر من ذلك، فإن إسرائيل، فرضت عزلة على الشريط، فأقفلت معابره كافة، وعاشت المنطقة المحتلة حالة حظر تجول شاملة… .
لقد ساءت العلاقات بين العملاء وإسرائيل، وعبّر عن ذلك قادة العملاء من جهة، والصحافيون الإسرائيليون من جهة أخرى، خاصة وان أخباراً راحت تتداولها وسائل الإعلام، عن قرب انسحاب إسرائيل من الشريط، دون أن يعرف مصير العملاء، الذي «أصبح وجودهم في المنطقة عبئاً ثقيلاً على الإسرائيليين» .
إن الشيء الملفت للنظر في تلك الفترة، هو السباق بين الدول الكبرى، وعواصم القرار في العالم، لتحقيق انسحاب إسرائيل من المنطقة المحتلة، وتنفيذ القرار 425، بعد اثنين وعشرين عاماً من صدوره، واللبنانيون تخوفوا من هذا الاهتمام المستجد، الذي كان يبدو أنه مفخخ، لأن أميركا وحلفاءها، لا يمكن أن يقدموا على خطوة، إلا إذا كانت لمصلحة إسرائيل أولاً، وربما أخيراً أيضاً.
وفي تلك الفترة كشفت جريدة السفير، سرّ المذكرة الرئاسية إلى الأمم المتحدة، وهدفها إحباط خطة من 7 بنود لضمان أمن إسرائيل، بموافقة أميركية» .
في أوائل نيسان، ظهر ان إسرائيل بدأت تقوم بإجراءات للانسحاب، بعد تأمين حدودها، وكانت هناك دول عديدة، قد دخلت على خط مساعدة إسرائيل لتنفيذ انسحابها من الشريط، إنما بالشكل الذي يريح الدولة العبرية، ولا يزعجها، وفي مقدمة هذه الدول الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، والأمم المتحدة، وخلال كل هذه الفترة، فإن لبنان لم يكن مطمئناً للنوايا الإسرائيلية الخبيثة .
في نفس الوقت، كان الإسرائيليون على قناعة، بأن الأوضاع بعد الانسحاب ستكون سيئة جداً بالنسبة لإسرائيل، وان «العنصر المركزي في القتال ضدهم سيبقى حزب الله» .
لم يأت شهر أيار سنة 2000، الا وكانت كل الأمور تنذر بأن حدثاً كبيراً سيحصل، وبرزت مشكلة مزارع شبعا كإحدى المشاكل الرئيسية المعلقة ، خاصة وان إسرائيل كانت ترفض الانسحاب منها، لأنها غير مشمولة بالقرار 425، حسب المفهوم الصهيوني، ولعب تيري رود لارسن دوراً مشبوهاً جداً في هذا الموضوع .
20 ــ التحرير، والتعامل الحضاري
بعد منتصف أيار، كانت الصحف الإسرائيلية تشير إلى قرب الانسحاب الإسرائيلي، وبالفعل بدأ الجيش الصهيوني بعملية تفكيك بعض المنشآت في المنطقة المحتلة، (رادارات وغيرها) .
بعد ذلك وردت الأنباء من المنطقة المحتلة، تفيد أن الاحتلال بدأ بإخلاء بعض مواقعه، كما ان أفراد الميليشيات المتعاملة، أخذوا يفرون من المنطقة، ويتجمعون عند بوابات الحدود .
الواقع ان الهواجس التي كان يطلقها الإسرائيليون، والتهويل الذي كان يخيف المواطنين، في المنطقة المحتلة، كان هباءً منثوراً، حيث حصل التحرير، وهرب كبار العملاء إلى داخل الأراضي المحتلة، ومن بقي من هؤلاء في المنطقة تمّ تسليمهم إلى الجيش اللبناني، حيث قام بإحالتهم إلى المحكمة العسكرية، التي أصدرت أحكاماً بحق هؤلاء.
يقول الياس خوري حول ما حدث: اثنان وعشرون عاماً من الاجتياحات المتتالية، من «عملية الليطاني» إلى «سلامة الجليل»، ومن عناقيد الغضب» إلى إحراق الكهرباء، صنعت لنا تاريخاًَ من المقاومة، يستطيع أن يملأ فراغات تاريخنا، ويسمح لنا ببناء وطن حقيقي، أكبر من كل الطوائف والمذاهب.. يحق للبنانيين إعلان إقفال «الساحة» الخلفية للصراع، فلقد أثبتت مقاومتهم الباهظة، نجاح هذه «الساحة»، وللمرة الأولى، منذ إنشاء دولة إسرائيل، في دحر «الجيش الذي لا يقهر»، وإجباره على الانسحاب تحت رصاص المقاومة، وعلى إخلاء أرض عربية دون قيد أو شرط .
الحدث الأهم بعد التحرير والانتصار، كان الاحتفال الجماهيري الكبير، الذي دعا إليه حزب الله في مدينة المقاومة والتحرير، وذلك يوم الجمعة في السادس والعشرين من شهر أيار، سنة 2000 ، والذي تخلله، لقاء تاريخي بين سيد المقاومة، الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، والجماهير التي زحفت من أكثر من منطقة، لتعبّر عن فرحتها بالانتصار، وبرؤية سماحة السيد، بشكل مباشر، وهو يلقي خطابه، من على ملعب بنت جبيل، الذي لا يبعد عن الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر من خمسة كيلو مترات فقط.
لقد ألقى السيد خطابه الشهير، وأهدى الانتصار إلى كل اللبنانيين، وإلى كل الشرفاء، وأطلق مقولته الشهيرة: «والله، إن إسرائيل لأوهن من بيت العنكبوت»، والتي أضحت على كل لسان وشفة.
إن كلمات السيد، وانتصار المقاومة، سبب ردّة فعل قوية في الكيان الصهيوني، مجتمعاً وقيادة عسكرية وحكومة، ومن هذا المنطلق راح العدو، منذ تلك الفترة يخطط للقيام بعمل عسكري كبير يثأر فيه من المقاومة، بسبب هزيمته المدوية.
لقد استطاع لبنان، عبر مقاومته الساهرة على الحدود، وجيشه الذي هو متأكد أن هناك شعباً معه، ومقاومة تدعمه وتساند ظهره، ان يستعيد معظم أراضيه المقضومة، ومنها في بلدات الاتحاد (عيثرون، مارون الراس وعيثا الشعب)، وبينما كان لبنان يخوض هذا الصراع ضد العدو، كان هناك من يتآمر على القضية الوطنية، بالتنسيق مع أطراف دولية، وربما عربية، والموفد الرسمي للأمين العام للأمم المتحدة تيري رود لارسن، الذي كان همّه الأول والأخير بعد التحرير، وحتى اليوم، مصلحة إسرائيل، وإسرائيل فقط دون غيرها.
الحدث الآخر، حصل بعد التحرير، كان عقد جلسة مجلس النواب في مسرح ثانوية بنت جبيل، وذلك بتاريخ 31 أيار سنة 2000، حيث استقبلت المدينة بمجلسها البلدي، وفعالياتها التربوية والثقافية والاقتصادية، رئيسي المجلس والحكومة، والوزراء والنواب.
لقد اتخذ المجلس قرارات عديدة، على الصعد الحياتية والمعيشية والخدماتية والأمنية وغيرها، لكن مع الأسف الشديد، لم يتحقق من تلك المقررات إلا الشيء القليل، ووصفت الصحف الجلسة بأنها «دعوة لبنان إلى الجنوب»، فيما قالت أخرى: «ان مجلس النواب يحتضن الجنوب المحرّر، ويعقد جلسة إنمائية في بنت جبيل .
تطورت الأمور في المنطقة بشكل أفضل، واستعادت البلدات حيويتها، وعادت بعض العائلات من بيروت إلى المنطقة، إنما بشكل محدود، وتطورت حركة العمران بشكل ملفت للنظر، وعمدت البلديات مع الجهات الرسمية لتأمين البنى التحتية وغيرها.
إن الوضع السياسي في المنطقة لم يكن مستقراً، بسبب الخروقات الصهيونية،البحرية والجوية،شبه اليومية، وكان حزب الله يرد على هذه الطلعات، وعندما تزايدت الخروقات، عمد الحزب إلى إطلاق المضادات، باتجاه الطائرات الصهيونية، بحيث كان الرصاص يسمع فوق المستوطنات الصهيونية، التي كان الوضع فيها يتأثر سلباً بذلك.
هذا وقامت المقاومة الإسلامية بعمليات عديدة، في مزارع شبعا وغيرها، بقصد خطف جنود، لمبادلتهم بأسرى، واستطاعت المقاومة تحقيق إنجاز كبير،حيث قامت بعملية مهمة، وأسرت جنوداً، وتمت مبادلتهم فيما بعد بأسرى.
ثم عاودت المقاومة الكرّة، وسقط منها شهداء، وفي تطور مهم شهدت أجواء المناطق المحتلة في فلسطين، اختراق طائرة بدون طيار، تحت اسم «مرصاد واحد»، ثم «مرصاد 2»، ومثّلت هذه المسألة تطوراً خطيراً بالنسبة للعدو.
إن مجلس الأمن والدول الغربية الكبرى، وكما عودتنا دائماً، فإنها كانت تدين المقاومة،فيما تستخدم حق النقض (الفيتو)، ضد أي مشروع قرار في المجلس (أي مجلس الأمن) يدين الكيان الصهيوني، بعد قيامه بالمجازر في فلسطين ولبنان، وغيرهما.. (جنين وغزة…).
21 ــ حرب تموز 2006
استمرت المناوشات على هذا النحو، إلى ان حصلت عملية أسر الجنديين الصهيونيين، قرب مستعمرة زرعيت، القريبة من بلدة عيثا الشعب، وذلك بتاريخ 12 تموز سنة 2006 .
الدولة العبرية لم تكن تنتظر مبرراً للقيام بعدوان جديد، فسير الأمور خلال ست سنوات، يبرز ان العدو كان يقوم بمناورات دائمة، وتدريبات مستمرة، وكان ينتظر الفرصة السانحة له لكي يثأر من لبنان ومقاومته على هزيمته.
كثير من الأوساط السياسية والإعلامية والصحفية، وعدد من الدوائر، أجمع على ان معظم الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد العرب، كانت بمبادرة منها، فيما الولايات المتحدة الأميركية، تقدم لها يد المساعدة في كل ما تطلب، لكن في تموز سنة 2006، كانت الولايات المتحدة الأميركية،هي المبادرة، في الطلب من إسرائيل، لشن حرب ضد المقاومة في لبنان، لتركيع هذه المقاومة، وخلق هوة كبيرة بينها وبين مجتمعها، وربما تغيير ديموغرافي في الجنوب، ونزع سلاح المقاومة، وتطبيق القرار الدولي 1559، والضغط على لبنان للتخلص من مقاومته، وكذلك على سوريا، وعلى إيران، وفك التحالف بين هذه القوى الممانعة للمخططات الاستعمارية الصهيونية.
لقد صرحت وزيرة الخارجية الأميركية «رايس» في تلك الفترة، ان المنطقة ستشهد تحقيق شرق أوسط جديد، وكانت وحكومتها والدول الغربية، وبعض الحكومات العربية على يقين بانتصار إسرائيل، وخسارة المقاومة، واتهم بعض العرب المقاومين بالمغامرين، وحصلت الحرب، التي اعتبرت حرباً مصيرية، بالنسبة لإسرائيل .
إن العملية التي قامت بها المقاومة، مثّلت حدثاً استباقياً، فقد أظهرت الوقائع والوثائق، فيما بعد، ان العدو الصهيوني، كان يخطط لعملية كبيرة جداً، ربما في يوم القدس، أو غيره، ليقتل كل قادة المقاومة.
استخدم العدو كل آلته العسكرية في هذه الحرب، التي طالت البشر والحجر والشجر، وكل شيء يتحرك، وكانت المقاومة له بالمرصاد، وردّت له الصاع صاعين، وتساقطت الصواريخ على شمال فلسطين، وعلى معظم المدن الصهيونية، وخاض المقاومون معارك ضارية مع القوات الصهيونية، وخاصة في عيثرون، عيناثا، مارون الراس،عيثا الشعب، بنت جبيل، الطيري – كونين، بيت ياحون، فرون، الغندورية، الطيبة، وادي الحجير وغيرها، حيث سطّر المقاومون أشرف المعارك البطولية، حيث أذاقوا العدو طعم مرارة الموت، وبيّنوا عملياً، ان الجيش الصهيوني ليس هو الجيش الذي لا يقهر،فقد تم قهره في لبنان، بينما الآخرون عقدوا معه اتفاقيات ذل وخنوع.
خلّفت الحرب آثاراً سلبية على المجتمع الصهيوني، مما استدعى إنشاء لجان تحقيق، لدراسة سبب الإخفاق الصهيوني، وخاصة لجنة فينوغراد .