بلدات المنطقة، كانت منذ القديم، ولا تزال حواضر للثقافة والعلم، ولا يوجد بلدة، إلا وكان فيها أدباء وشعراء وكتّاب، ومؤرخون ومثقفون ومفكرون وإعلاميون…
وقلب المنطقة كان ينبض باستمرار، مشيراً إلى الحركة والحيوية، التي لم تتوقف، حواضر المنطقة كانت تشهد باستمرار جلسات الأدب والشعر، حيث كان الشعر يلقى على نغمات سماور الشاي وهديره، يلقى الشعر عن ظهر قلب، حيث يُحفظ كالآيات، ويقال ارتجالاً، ابن لحظته، خالياً من أي تكلف أو تصنع، وقد تنظم قصيدة كاملة، في جلسة شاي واحدة، حيث يبدأ أحد الشعراء، وخاصة من رجال الدين، ببيت من الشعر، فيتبعه الآخر ببيت ثانٍ، وهكذا حتى تكتمل القصيدة، والأدب والشعر في المنطقة، صورة مصغّرة عن الأدب العاملي، المولود في بيئة، عانت أصلاً من الظلم والقهر والاستعباد والاضطهاد، طيلة العهد العثماني ، في ظل الانتداب الفرنسي، حيث استمر الفقر والحرمان والتسلط، باسم الانتداب، وان كان هناك بعض الاهتمام، في نواحٍ معينة، ضيقة جداً، فإنه كان يطال بعض الموالين للسلطة، والأزلام، والدائريين في فلك سياستها.
هذا وكلما كان القهر والحرمان أكثر وأقوى، فإن قرائح الشعراء والأدباء كانت أهم وأفعل وأزخر، وأكثر تحفزاً على التحدي، وعدم الشعور بالضعف، وعدم التراجع والركون للأقدار، ولم يكن هناك قبول بالتجهيل، والإبقاء على حالة التخلف التي كانت تسود المجتمع، والتي كان بعض السياسيين، شركاء في تكريسها، لتبقى زعاماتهم قائمة على أكتاف مواطني مجتع متخلف.
لقد ساهم معظم رجال الدين، المتنورين، وبعض المتفقهين، في إحياء حركة شعرية وأدبية، كانت لها مجالاتها المتعددة، والحركة هذه التي شملت شقراء، عيناثا، بنت جبيل، عيثرون، بشكل خاص، كانت موجهة ضد كل من كان يريد أن يبقي على حالة الجهل والتخلف في المجتمع، وضد كل من كان يسير في ركاب المحتل المنتدب، وضد هذا الانتداب الاستعماري بالذات أيضاً.
لقد برز دور الأدب والشعر، أثناء انتفاضة مزارعي التبغ، ضد شركة الريجي الاحتكارية، وضد إرهاق الشعب بالضرائب، وضد الزعماء الذين يتزلفون للسلطة الحاكمة.
كما ان الشعر والأدب، قارب المسألة القومية، التي كانت تشغل بال الوطنيين العامليين خاصة، ألا وهي القضية الفلسطينية، حيث كان الشعراء والأدباء، لا يفوتون فرصة أو مناسبة، إلا وكانوا يحذّرون من النوايا الخبيثة التي يقوم بها المستعمرون البريطانيون والصهاينة، لتحويل فلسطين إلى دولة يهودية، كما انهم، وفي فترات لاحقة، انتقدوا كل الخيانات، والتخاذل العربي، ويمكن القول أن فلسطين كانت عروس الشعر والأدب العاملي.
هذه المرحلة التي مرّت بها المنطقة، كان لها شعراؤها الكبار المميزون، معظمهم من رجال الدين، الذين كانوا، إلى جانب دراساتهم، ثم تدريسهم فيما بعد، يمارسون هواية نظم الشعر، حتى اننا كنا أمام عائلات دينية شاعرة وأديبة بكل معنى الكلمة.
فمعظم علماء آل الأمين شعراء، وكذلك بالنسبة لعلماء آل فضل الله، وشرارة، ومرتضى، وسبيتي وغيرهم.
في الثلاثينات، من القرن العشرين، كان الأدب في المنطقة يتردد بين التقليد والمحاكاة القديمة، وبين التجديد، الذي لاحت سماته في دنيا العرب، وبرز عدد من الشعراء والأدباء، الذين تحرروا من قيود المحاكاة، ومن فنون التقليد، وفي مقدمة هؤلاء عبد الحسين عبد الله، الشيخ علي الزين، السيد هاشم الأمين، عبد الرؤوف الأمين (فتى الجبل)، حسين مروة، الشيخ محسن شرارة، محمد شرارة، وموسى الزين شرارة، وغيرهم.
ونلاحظ ان معظم الذين كانوا ينتسبون إلى عصبة الأدب العاملي، كانوا ينتمون إلى عائلات دينية معروفة في جبل عامل، وكان هؤلاء يتميزون بشعرهم الوطني، والقومي، والساخر.
لقد استفاد هؤلاء وغيرهم من صفحات مجلة العرفان، ومجلة العروبة، وغيرهما، لتقديم نتاجهم.
نشير إلى مسالة مهمة، وهي ان منازل رجال الدين في المنطقة، كانت عبارة عن مكتبات، تحتوي على نفائس الكتب والمخطوطات، وشهدت المنطقة في الثلاثينات، وتحديداً بين سنة 1930 وسنة 1936، إنشاء أول مكتبة عامة، كانت في بنت جبيل، أطلق عليها اسم «مكتبة التهذيب»، كانت تمثل توجهاً ثقافياً مناوئاً للانتداب ورموزه، وداعماً لتثقيف الناشئة وتوعيتهم، وتفتح عيونهم وعقولهم على ما يكتب خارج الوطن.
أما عن تأثير النجف الأشرف على الواقع الشعري والأدبي في جبل عامل ، فإن النجف لم تكن مجالاً لدراسة العلوم الشرعية فقط، وإنما كانت عبر تاريخها الطويل، منطلقاً لحركة أدبية شعرية، جعلت منها أهم المراكز الأدبية في العراق، وفي العالم الإسلامي أيضاً، ويتحدث العديد من العلماء الذين كانوا يدرسون هناك، انهم والكثير من الطلاب ، «كانت تجتذبهم المجالس، والندوات الأدبية، فيحضرونها، وهذا ما جعل عدداً كبيراً من الفقهاء، الذين تخرجوا من النجف الأشرف شعراء وكتاباً، والأغلبية الساحقة ذواقة للشعر والأدب بصورة عامة، فمجتمع النجف هو مجتمع علمي وأدبي في آن واحد، والحصول على ثقافة أدبية، كان يتوقف على ميول الطالب ورغباته، بحيث انه يجد المجال واسعاً لتنمية ملكاته الأدبية، إضافة إلى مهمته الأساسية لتحصيل العلوم الإسلامية» .
هذا وانعكس مثل هذا الوضع على الحركة الأدبية في جبل عامل، وبهذا الخصوص يقول د. إبراهيم بيضون: «كان المنبر قبل القرن العشرين هو الوسيلة الوحيدة تقريباً، والمنبر هنا لا نقصد به المنبر في الجامع أو الحسينية، بل كل منبر، ففي المناسبات الاجتماعية والسياسية ينعقد المجلس، وكان يجري ذلك في البيوت أيضاً، وكان النقاش يدور حول العلم والشعر والأدب، لذلك راجت مطارحات الشعراء، وكل العلماء أو غالبيتهم، كانوا يتعاطون الشعر، وكان الشعر عنصراً إضافياً في ثقافة العالم أو الفقيه، وبالطبع هذا ناتج عن التأثر بالمناخ الشعري للنجف، وكانت صورة هذا المناخ تنتقل إلى جبل عامل، بعد عودة العالم إلى دياره، كما ان عدداً من العراقيين كانوا يفدون إلى جبل عامل، حدث هذا في الثلاثينات، لا سيما مع بروز طقوس عاشوراء في سوق النبطية» .
وإلى جانب هذه المسائل بالنسبة للشعر والأدب، فقد كان هناك جانب سياسي لابدّ من لحظة في الشعر العاملي، وهو يتعلق بالطابع العروبي له، وهذا الأمر يعيده د. بيضون «إلى الجذور العربية للتشيع، فأكثر القبائل العربية، التي والت الإمام علي، كانت من الأنقى أصولاً: همدان، مذحج، نخع، بجيلة… هذه كانت مادة التشيع، لذلك كان جبل عامل في مطلع القرن العشرين، الأكثر تفاعلاً مع الحركة العربية» .
وحول تأثير بعض المجلات في هذا المجال، يذكر ان «مجلة العرفان الشهيرة، كانت التعبير الأوضح عن الحالة السياسية والثقافية في جبل عامل، وعبّرت عن الخط السياسي العروبي، الذي التزمه رجال جبل عامل في تلك المرحلة، صحيح أنها كانت مجلة ذات طابع إسلامي، ولكنها تبنّت العروبة، وحرصت في منهجها، على أن تكون مجلة وحدوية على هذا المستوى، هذه المجلة كانت المدرسة الكبرى للشيعة في جبل عامل، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكان هذا عصرها الذهبي، وكانت المنبر الأكثر سطوعاً لأدباء وشعراء وعلماء… كانوا ينشرون نتاجهم فيها»، وحول تأثر الأدب والشعر العاملي بالنتاج العراقي، يذكر انه شعر العامليين، كان «ينطق بالروح العربية الأصيلة… وقد اثرّ الشعر العراقي عموماً، والشعر النجفي، في الصورة الشعرية لشعراء جبل عامل، كما أثر في الأفق السياسي له، والحصيلة، ان جبل عامل كان يعجّ بالنشاط السياسي والفكري والأدبي، وقد استمر ذلك حتى الستينات، مع ما حملته من تطورات» .
منذ أواخر الستينيات، حصلت أحداث في المنطقة، أمنية وعسكرية، كان لها تأثيراتها على كل النواحي، ومنها الثقافية، ولأن المنطقة كانت عرضة للاعتداءات الصهيونية المتكررة، فإن الهموم المعيشية والحياتية للمواطنين أصبحت هي الأهم، فتراجع كل نشاط له طابع أدبي أو شعري، ثم كانت الاجتياحات المتكررة، وهذه أيضاً زادت الأمر سوءاً، حتى ان مدارس أقفلت أبوابها، وحصلت هجرة كثيفة، ولم يبق في المنطقة إلا من لا قدرة له على السكن في بيروت، أو من هو مرتبط بنشاط زراعي أو حرفي أو تجاري في المنطقة.
بعد الاجتياح الثاني، وبدء عمليات المقاومة، والعمليات الاستشهادية، كان هناك أدب من نوع جديد، هو أدب المقاومة، والمقاومين، حيث كانت الساحة ميداناً رحباً لعدد من الشعراء والأدباء، الذين كان نتاجهم تعبيراً حيّاً عن واقع الحال، وعن الحالة الجهادية التي نشأت، وتطورت تدريجياً، خاصة مع العمليات النوعية، التي قام بها جهاديون، مقاومون، بعضهم استشهد، والبعض الآخر لا يزال يتابع مسيرة النضال والجهاد حتى اليوم.